قواعد المنهج في علم
الاجتماع لإميل دوركايم
بقلم الدكتور محمود قاسم. عميد كلية دار العلوم
الظاهرة الاجتماعية ليست كل ما يحدث في
المجتمع، وإلا لكان النوم والأكل والشرب والتأمل، بل الهذيان، ظواهر اجتماعية.
وقد ضرب دوركايم أمثلة للظواهر الاجتماعية
كالواجبات الأخلاقية التي يحددها العرف والقانون، وبالعقائد الدينية، واللغة
والنقود وجميع الوسائل الاقتصادية التي يستخدمها المرء في علاقاته التجارية،
والتقاليد. فكل هذه الأمور ظواهر اجتماعية؛ لأنها موضوعية، أي أن لها وجوداً خاصاً
خالاج شعور الأفراد، لأنها ليست من صنعه؛ بل هو يتلقاها من المجتمع الذي نشأ فيه،
وليس يمكن أن يقال إنها وليدة التفكير الذاتي؛ بل الأولى القول بأنها هي التي
تلوّن هذا التفكير لدى مختلف الأفراد بطابع متجانس إلى حدٍ كبير أو قليل، حسب درجة
التقدم التي وصل إليها المجتمع.
[الظاهرة الاجتماعية هي
الظاهرة التي يصنعها المجتمع ويجد الأفراد أنفسهم خاضعين لها.]
"ويترتب على خاصية الموضوعية خاصية
القهر والإلزام...والحق أن الفرد لا يشعر في كثير من الأحيان بهذا القهر لأنه
يستجيب له بحسب العادة، لكن سرعان ما يفطن إلى سلطان الظواهر الاجتماعية متى حاول
الخروج عليه."
"ولما كانت الظواهر الاجتماعية ذات
طبيعة خاصة فمن الضروري أن تختلف عن الصور الت تعكسها في ضمائر الأفراد. ومن
الممكن فعلاً أن نفصل أية ظاهرة اجتماعية عن مظاهرها أو تجسداتها الفردية. فمثلاً
يحدد لنا علم الإحصاء عدد الزيجات والطلاق والانتحار، ويعطينا رسوماً بيانية تصدق
في المتوسط إلى حدٍ كبير، لكنه لا يعيّن لنا بالدقة الأفرادَ الذين سيتزوجون أو
ينفصلون أو ينتحرون. ويرجع ذلك إلى أن كل فردٍ له ظروفه النفسة الخاصة. ومع هذا
فإن هذه التجسدات الفردية لا تخلو من عنصرٍ اجتماعي، فهي وسط بين الظواهر
الاجتماعية والظواهر السيكولوجية. ومن الممكن أن ينشأ لها علم خاص هو علم النفس
الاجتماعي. أما الظواهر الاجتماعية بمعنى الكلمة، كالعقائد والعادات والتقاليد
والأخلاق إلخ.. فهي تراثٌ إنساني يفرض نفسه على الأجيال المتعاقبة، بدلاً من أن
يقال إن الأفراد هم الذين يخلقونه بدءاً في كل عصر. وهذا يكشف لنا عن حقيقةٍ هامة،
وهي أن الظواهر الاجتماعية مستقلة عن الصور الفردية التي تتشكل بها عند انتشارها
في أحد المجتمعات."
لا يسلّم دوركايم بنظرية كل من سبنسر
وإسبناس. تلك التظرية التي تماثل بين المجتمع والكائن الحيّ، والتي تحاول عند
سبنسر أن تطبق قانون الاختيار الطبيعي على مصائر الأمم، والتي ترجع اختلاف الظواهر
الاجتماعية إلى الفروق بين الأجناس. كذلك لا يرتضي رأي تارد الذي يقضي بإرجاع
الظواهر الاجتماعية إلى عوامل نفسية فردية.
يلح دوركايم في تأكيد فكرته بالقول إن
الظواهر الاجتماعية، وإن كانت نفسية بحسب طبيعتها، فإنها تختلف تماماً عن الظواهر
النفسية الفردية.. وقد بلغ إلحاح دوركايم في التفرقة بين الظواهر الاجتماعية
والسيكولوجية إلى درجة أنه كاد أن يجعل الفرد فكرةً مجردة، كما فعل كونت من قبل.
ويكشف لنا هذا الإلحاح عن تلك النزعة الأخلاقية الإصلاحية التي حاول إخفاءها قدر
طاقته. والحق أنه انتهى إلى علم الاجتماع عن طريق علم الأخلاق.
ويعرّف دوركايم الظاهرة الاجتماعية بأنها
"كل ضربٍ من السلوك، ثابتاً كان أم غير ثابت، يمكن أن يباشر نوعاً من القهر
الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعم في المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مستقل
عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية."
يحدد دوركايم القواعد الخاصة بملاحظة
الظاهرة الاجتماعية: فالقاعدة الأولى هي القائلة بأنه يجب على عالم الاجتماع أن
يتحرر بصفة مطردة من كل فكرة سابقة "وهذه هي قاعدة الشك عند ديكارت، وفكرة
التحرر من الأصنام عند "بيكون". أما القاعدة الثانية فتتلخص في أنه من
الواجب أن ينحصر موضوع البحث في طائفة خاصة من الظواهر التي سبق تعريفها ببعض
الخواص الخارجية المشتركة بينها، ومن الواجب أن ينصب نفس البحث على الظواهر التي
تتوافر فيها شروط ذلك التعريف. وهذه القاعدة خاصة بتصنيف الظواهر الاجتماعية في
طوائف متجانسة كظاهرة الجريمة، والأسرة، والعشيرة، والعائلة الأبوية .. إلخ.
أما القاعدة الثالثة فهي "من الواجب
على عالم الاجتماع لدى شروعه في دراسة طائفة من الظواهر الاجتماعية أن يبذل جهده
في ملاحظة هذه الظواهر، من الناحية التي تبدو فيها مستقلة عن مظاهرها
الفردية" وهذا شرط ضروري حتى يمكن العثور على الصفات الثابتة التي تتيج لنا
الكشف عن حقيقة الظواهر، ومن ثم تسمح لنا بالكشف عن القانون الذي تخضع له.
إن بعض الظواهر التي تبدو شاذة في نظر
العامة قد لا تكون كذلك في نظر العالِم. وقد ضرب دوركايم لذلك مثالاص بظاهرة
الجريمة، فإنها، وإن بدت شاذة، إلا أنها ترتبط بشروط الحياة الاجتماعية، وهي
تلاحَظ بصفة عامة في معظم المجتمعات التي تنتهي في تطورها إلى نوع معيّن؛ بل يمكن
القول بأنه ما من مجتمع يخلو من الجريمة. ومن ثم فهي ظاهرة سليمة في حد ذاتها. لكن
من الممكن أن تتشكل بصورة شاذة ـ وهذا هو ما يحدث عندما تزيد نسبة الإجرام زيادة
كبيرة. فهذه الزيادة هي الظاهرة الشاذة.
لقد وقع سبنسر في الخطأ عندما فسر نشأة
المجتمع ببعض المزايا التي يؤدي إليها التعاون. وليس معنى ذلك أن دوركايم ينكر أن
تكون للظواهر الاجتماعية بعض الفوائد أو الغايات، ولكنه ينكر أن يكون المجتمع قد
نشأ بناء على هذا التفكير الغائي. ويجب عدم الخلط بين الأسباب الفعالة الحقيقية
التي أدت إلى نشأته وبين الغايات التي ترتبت على هذه النشأة.
"يجب البحث عن السبب في وجود إحدى
الظواهر الاجتماعية بين الظواهر الاجتماعية السابقة لها، لا بين الحالات النفسية
التي تمر بشعور الفرد".
يُلاحَظ أن دوركايم أغفل التعرّض لمرحلة الفرض في المنهج الاجتماعي، ولعله
متأثّر هنا بعداء كونت للفروض في المرحلة الثانية من حياته العلمية. ومن المعلوم
أن طرق البرهان في المنهج العلمي هي طريقة الاتفاق، وطريقة الاختلاف، وطريقة
التفسير النسبي وطريقة البواقي. وأفضل الطرق في نظر دوركايم هي طريقة التغير النسبي
التي يجب إكمالها بالطريقة التاريخية. أما طريقة البواقي فلا يمكن استخدامُها في
دراسة الظواهر الاجتماعية؛ إذ إنها تستخدم فقط في العلوم التي قطعت شوطاً كبيراً
في الكشف عن القوانين، وهذا ما لم يتم بعد في علم الاجتماع. وقد بيّن دوركايم
الصعوبات التي تعترض تطبيق كل من طريقة الاتفاق وطريقة الاختلاف "ففي الواقع
تقوم كلٌ من هاتين الطريقتين على أساس الفرض الآتي: وهو أن جميع الحالات التي
يقارن بينها المرء تتفق أو تختلف من جميع الجهات ما عدا جهةٍ واحدة فقط" وهذا
ليس بالأمر الأكيد في علم الاجتماع على الأقل. أما طريقة التغيير النسبي فيكفي
فيها أن تقارن بين التغيرات التي تمر بها ظاهرتان للوقوف على العلاقة السببية
بينهما وهي لا توقفنا على هذه العلاقات من الخارج بل من الداخل، لأنها ترينا أن
كلتا الظاهرتين تتأثر بالأخرى. "وهناك سبب آخر كانت من أجله طريقة التغير
النسبي أفضل الطرق.. ففي الواقع لا يمكن استخدام الطرق الأخرى استخداماً مجدياً..
إلا بشرط أن يكون عدد الظواهر التي يقارن الباحث بينها كبيراً جداً. فلئن عجز
المرء عن الاهتداء إلى مجتمعين يختلفان أو يتفقان في جميع الوجوه ما عدا وجهاً واحداً فإنه يستطيع يتحقق على الأقل
من أن ظاهرتين من الظواهر توجدان معاً أو يتنافى وجودهما بصفة عامة جداً. ومتى
برهن المرء على أن ظاهرتين من الظواهر تتغيران تغيراً نسبياً في عددٍ من الحالات
استطاع التأكد حينئذٍ من أنه يوجد وجهاً لوجه مع أحد القوانين وهكذا يمكن تحديد
قواعد البرهان على النحو الآتي:
لن يستطيع المرء تفسير أية ظاهرة اجتماعية
معقدة بعض الشيء إلا بشرط أن يتبع بملاحظته جميع مراحل التطور التي تمر بها
الظاهرة في جميع الأنواع الاجتماعية. ويمكن إصابة هذا الهدف بأن نلاحظ المجتمعات
التي نقارن بينها في مرحلة مشتركة من مراحل تطورها. وهكذا نحكم بتقدم الظاهرة أو
بتقهقرها أو ببقائها على حالها الأولى، تبعاً لما يعتورها من قوة أو ضعفٍ في أثناء
وجودها في كل مجتمع من هذه المجتمعات.
من كتاب دوركايم: الصفحات 54ـ 55ـ 56ـ 57ـ
58.
"لا شك اليوم في أن الغالبية الكبرى
من آرائنا وميولا ليست من صنعنا، وإنما تأتينا من الخارج. ولذا فليس من الممكن أن
تصبح هذه الأمور جزءاً من شعورنا الداخلي إلا بشرط أن تفرض نفسها علينا فرضاً..
ولكن لما كانت الأمثلة التي سبق ذكرها (ونعي بها القواعد القانونية والخلقية
والعقائد الدينية والنظم الإقتصادية إلخ..) تنحصر جميعُها في بعض العقائد والعادات
تامة التكوين فقد يعتقد بعضهم، تبعاً لذلك، أن الظاهرة الاجتماعية لا توجد إلا إذا
كانت تامة التكوين محددة الأوضاع. لكن هناك بعض الظواهر الأخرى التي تمتاز بنفس
الخواص، أي بأن لها وجوداً واقعياً، وبأنها تسيطر على الفرد، وإن لم تتخذ لنفسها
صوراً ثابتةً محددة، وهي الظواهر التي يطلق عليها الناس اسم التيارات الاجتماعية..
حقاً إنه من الجائز ألا أشعر بالضغط الذي تباشره عليّ هذه التيارات في حال ما إذا
تركت نفسي لها دون مقاومة. لكن هذا الضغط يبدو بأجلى مظاهره إذا حاولت الوقوف في
وجه هذه التيارات.
وإذ أكد القهر الاجتماعي وجوده بمثل هذه
القوة في حال المقاومة فذلك دليل على أنه يوجد في حال عدم المقاومة بصفة لا
شعورية. ومن ثم فنحن ضحية هذا الوهم الذي يدعونا إلى اعتقاد أننا نساهم بنصيب في
خلق تلك الظواهر التي تفرض نفسها علينا فرضاً من الخارج. ولكن لئن رضينا بدفع
التيارات الاجتماعية لنا فليس هذا الرضا سبباً في القضاء عليها، حتى لو استطاع أن
يخفي عنا قوة دفعها لنا. ومن قبيل ذلك أن الهواء يظل ثقيل الضغط، وإن لم نشعر
بثقله، ولو فرضنا أننا ساهمنا، مختارين، في خلق بعض الانفعالات الاجتماعية فإن
الحالة النفسية التي نشعر بها في هذه الحال تختلف عما نشعر به إذا كنا منفردين.
ومن جهة أخرى نستطيع تأكيد تعريفنا للظاهرة الاجتماعية بتجربة عظيمة الدلالة فإنه
يكفي أن نلاحظ الطريقة التي تتبع في تربية الصغار: إن جميع أنواع التربية تنحصر في
ذلك المجهود المتواصل الذي نرمي به إلى أخذ الطفل بألوان من الفكر والعاطفة
والسلوك التي ما كان يستطيع الوصول إليها لو ترك وشأنه.. ومن ثم يمكننا أن ننظر
إلى هذه الأساليب على أنها صورة مصغرة للطريقة التي نشأ عليها هذا الكائن
الاجتماعي في مختلف مراحله التاريخية. ذلك بأن الضغط الذي يعانيه الطفل في كل لحظة
من لحظات حياته ما هو إلا ضغط البيئة الاجتماعية التي تحاول أن تطبعه بطابعها
الخاص، والتي تتخذ الآباء والمربين ممثلين ووسطاء لها. وعلى ذلك فليست صفة العموم
بالخاصيةالتي يمكن استخدامها في تعريف الظواهر الاجتماعية. ذلك لأن الفكرة التي
توجد بعينها في شعور كل فرد ليست ظاهرة اجتماعية، كما أن الحركة التي يقوم بها كل
عضوٍ من أعضاء المجتمع ليست هي الأخرى بظاهرة اجتماعية، رغم عموم كل
منهما..".
2ـ ضرورة التخلص من الآراء الوهمية
المرتبطة بالظواهر الاجتماعية. (من قواعد المنهج ص ص 70 ـ 95)
إن المرء لا يستطيع أن يحيا وسط الأشياء
الطبيعية دون أن يكوّن لنفسه بعض الأفكار التي تساعده على تحديد سلوكه تجاهها.
ولكن لما كانت هذه الأفكار أقرب إلينا من الحقائق الخارجية التي تغبر عنها وأسهل
تناولاً منها فإنا نميل .. إلى الاستعاضة بها عن تلك الحقائق.. وفي مثل هذه الحال
نكتفي باستحضار معاني الأشياء في شعورنا لكي نحللها أو نؤلف بينها، وذلك بدل أن
نتجه إلى الأشياء نفسها لكي نلاحظها ونصنفها ونقارن بينها.. ومن الواضح أن هذه
الطريقة لا يمكن أن تفضي إلى نتائج موضوعية، وذلك لأن هذه المعاني.. لا تقوم بحال
ما مقام الأشياء نفسها.. ولذا فإن المعاني التي تنشأ على هذا النحو لا تكون دقيقة
من الناحية العملية إلا على وجه التقريب.. ولكن كثيراً ما تجمع هذه المعاني بين
الخطر وبين عدم المطابقة للواقع، ومهما افتن المرء في طريقة التأليف بين هذه
المعاني فلن يصل إبداً إلى الكشف عن القوانين التي تخضع لها الكائنات الحقيقية، بل
يمكن القول بأن هذه المعاني تعد، على عكس ذلك حجاباً يسدل بين الحقيقة وبيننا..
وقد أشار بيكون إلى أن هذه المعاني توجد في المرحلة الأولى لكل علم من العلوم، حيث
تغتصب لنفسها مكان الظواهر.. فإذا كانت هذه هي نشأة العلوم الطبيعية أفلا يجب
بالأولى أن يكون الأمر كذلك فيما يتعلق بنشأة علم الاجتماع، لأن الناس لم ينتظروا
نشأة هذا العلم حتى يكونوا لأنفسهم فكرة عامة عن القانون أو الأخلاق أو الأسرة أو
الدولة أو المجتمع، وكيف لهم أن ينتظروا وما كانوا يستطيعون الحياة دون أن يكوّنوا
لأنفسهم هذه الفكرة؟ .. ولا توجد هذه المعاني المبتذلة عند نشأة العلم فحسب؛ بل
توجد أيضاً في كل لحظة من لحظات تفكيرنا. فكان ينبغي لنا حينئذٍ أن نمتنع عن
استخدام مثل هذه الألفاظ امتناعاً باتاً ما دامت المعاني التي تعبر عنها لم تنشأ
بطريقة علمية سليمة. ومع ذلك فإن الألفاظ التي تستخدم في التعبير عن هذه المعاني
تتردد في مناقشات علماء الاجتماع. ويستخدم المرء عادة هذه الألفاظ واثقاً من أنها
تعبر عن أشياء معلومة تمام العلم ومحددة تمام التحديد، مع أنها لا تثير في شعوره
سوى بعض المعاني الغامضة.. وما برحت هذه الطريقة التي تعتمد على التفكير الخيالي
الأجوف كثيرة الاستعمال في فروع علم الاجتماع الخاصة. ويبدو ذلك واضحاً جداً في
علم الأخلاق.. فمن الواجب أن ينتقل الباحث.. من مرحلة النظر الشخصي.. إلى مرحلة
النظر الموضوعي ولكن نرى أن الانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية أسهل
تحقيقاً في علم الاجتماع منه في علم النفس؛ وذلك لأن الظواهر النفسية تبدو
لملاحظتنا على أنها أشياء داخلية بطبيعتها.. وليس الأمر كذلك في ما يتعلق بالظواهر
الاجتماعية، وذلك لأنها تنطوي، بصفة مباشرة وطبيعية جداً، على خواص الأشياء
الخارجية. فإن القانون يوجد مدوناً في مجموعاته الخاصة به، كما أن حوادث الحياة
اليومية توجد مسجلة في أرقام جداول الإحصاء..".
3ـ القواعد الخاصة بملاحظة الظواهر
الاجتماعية.
هناك بعض الأسباب التي تجعل التحرر من
سيطرة الأفكار الشائعة في علم الاجتماع غاية في العسر. ذلك بأن العاطفة كثيراً ما
تساهم في الأخذ بناصر هذه الأفكار. فإننا نتشيّع لمعتقداتنا الدينية ولعاداتنا
الخلقية أكثر من تشيعنا للظواهر الطبيعية. وهكذا يؤثر هذا الطابع العاطفي في كيفية
فهمنا للظواهر الاجتماعية، وعلى الطريقة التي نتبعها في تفسير هذه الظواهر.. ذلك
أن كل رأي يعارض تلك الأفكار يعد عدواً لها، ويعامل معاملة العدو. وإذا أرادت
العاطفةُ تبرير موقفها من هذا الرأي فليس من العسير أن تجد حججاً لا يلقى المرء
مشقةً في الاعتراف بأنها دامغة. أضف إلى ذلك أن هذه الآراء قد تبلغ درجةً قصوى من
النفوذ فلا تسمح بأن توضع موضِعاً للمناقشة العلمية.. فمن قبيل ذلك أن بعض ذوي
الحساسية المفرطة يحكمون على كل باحث يحاول دراسة الأخلاق دراسةً موضوعية، وعلى
أنها أشياء خارجية، بأنه إنسانٌ مجردٌ من كل عاطفة خلقية. وهُم في ذلك كالعامة
التي تحكم على مشرح الأجساد بأنه مجردٌ من كل عاطفةٍ إنسانية.. إن العاطفة أحد
الموضوعات التي يدرسها العلم، ولكنها ليست مقياساً للحقيقة العلمية. هذا، وليس
هناك علمٌ إلا واجه مقاومةً من هذا القبيل في مراحله الأولى. فقد أتى حينٌ من
الدهر لاقت فيه العلوم الطبيعية مقاومة عنيفةً من قبل العواطف الإنسانية التي كانت
تمس الظواهر الطبيعية.. أما وقد تحررت العلوم، واحداً بعد آخر، من سيطرة تلك
الفكرة الشائعة فإنه يحق لنا الاعتقاد أنها ستختفي في نهاية الأمر من علم الاجتماع
أيضاً، أي من آخر معاقلها.
إن كل بحثٍ علمي يدور حول طائفة معيّنة من
الظواهر التي تتحقق فيها شروط تعريفٍ معيّن.. ولما كان هذا التعريف المبدئي
الموضوعَ الأساسي لكل علم فإن هذا الموضوع يختلف باختلاف الطريقة التي يتبعها
المرء في هذا التعريف.. ومن البديهي أن هذا التعريف لن يكون مطابقاً للواقع إلا
بشرط أن يعبر عن الظواهر الموجودة بالفعل مستعيناً على ذلك بخواصها الذاتية، لا
بوجهة نظر فلسفية.. ومن الواجب أن يعتمد الباحث على الخواص الخارجية (للظواهر) لكي
يهتدي إلى العناصر التي يتألف منها التعريف المبدئي الأساسي سالف الذكر.. ومن
الواجب أن تكون الخواص الخارجية، التي يستعين بها العالم على تحديد موضوع بحثه،
أقرب ما يمكن إلى الواقع. ويمكننا القول بأن الظواهر الاجتماعية كلما جردت من
الصور الفردية التيي تتشكل بها استطاع الباحث إدراكها بحسب ما توجد عليه في حقيقة
الأمر.. ولا بد له من أن يبدأ دراسته للعالم الاجتماعي من تلك النواحي التي تسمح
طبيعتها بالدراسة العلمية الصحيحة. وهذا هو الشرط الضروري الذي سيمكننا في ما بعد
من التقدم في أبحاثنا، ومن تضييق الخناق، شيئاً فشيئاً، على تلك الحقيقة
الاجتماعية التي تكاد تفر من البنان، والتي قد لا يستطيع العقل الإنساني إدراكها
تمام الإدراك."
4ـ تفسير الظواهر الاجتماعية:
"إن الطريقة التي يتبعها علماء الاجتماع
بصفةٍ عامة في تفسير الظواهر.. طريقة غائية ونفسية في آن واحد.. ففي الواقع إذا لم
يكن المجتمع شيئاً آخر سوى مجموعة الوسائل التي يحددها الناس لتحقيق غاياتٍ معيّنة
فليس من الممكن إلا أن تكون هذه الغايات فردية، وذلك لأنه لا يمكن أن يسبق المجتمع
إلا بالأفراد.. وإذا لم يحتوِ المجتمع من
جهة أخرى إلا على ضمائر الأفراد أصبحت هذه الضمائر منبعاً لكل تطور اجتماعي.
وحينئذٍ لا بد أن تكون القوانين الاجتماعية تتمةً للقوانين شديدة العموم التي
ينطوي عليها علم النفس.. ولكن ليس من الممكن تطبيق هذه الطريقة على الظواهر الاجتماعية
أللهم إلا إذا شوهنا طبيعتها، ! ويكفي في البرهنة على ذلك أن نعود إلى تعريف
الظاهرة الاجتماعية. فلما كانت الخاصة الجوهرية التي تمتاز بها هذه الظواهر تنحصر
في القيام بضغط خارجي على ضمائر الأفراد كان ذلك دليلاً على أنها ليست وليدة هذه
الضمائر. وعلى ذلك فليس علم الاجتماع تكملة لعلم النفس.. وإن الطريقة التي تتبعها
الجماعة في التفكير والشعور والعمل تختلف تماماً عن الطريقة التي يسلكها أفراد هذه
الجماعة إذا وجد كل منهم على حدة. ولذا متى اتخذ الباحث هؤلاء الأفراد نقطة بدءٍ
لدراسة الظواهر الاجتماعية فسيعجز عن فهم شيء ما عن حقيقتها.
إننا لا نستطيع في الواقع،
مهما صعدنا في مجاهل التاريخ، أن نجد ظاهرة أشد قهراً من ظاهرة الاجتماع، وذلك لأن
هذه الظاهرة مصدرُ جميع ألوان القهر الأخرى، فإني مضطر بسبب مولدي إلى الانتماء
إلى شعبٍ معيّن. وقد يقول بعض الناس إنني أرتضي هذا القهر عندما أبلغ سن الرشد..
لأنني أواصل الحياة في وطني. ولكن ما أهمية ذلك؟ إن هذا الرضى لا يجرد هذا الواجب
من طابعه الإجباري، لأن القهر الذي نرتضيه، ونحتمل وطأته دون تذمر، يظل قهراً على
الرغم من رضانا به.
ومن جهة أخرى فما قيمة هذا
الرضا؟ إنه رضا بالإكراه قبل كل شيء، لأننا لا نستطيع، في الغالبية الكبرى من
الأحوال، التخلص من جنسيتنا أدبياً أو مادياً. فإن الناس ينظرون، بصفةٍ عامة، إلى
تغيير الجنسية كما لو كان تغييراً للعقيدة الدينية. أضف إلى ذلك أن الرضا لا ينصب
على الزمن الماضي الذي ما كان من الممكن أن يكون موضعاً للرضا، وذلك على الرغم من
أن الماضي هو الذي يحدد اختيارنا في الوقت الحاضر. فأنا لم أخترع نوع التربية التي
تلقيتها، ومع ذلك فهذه التربية هي التي تجبرني أكثر من أي عاملٍ آخر على البقاء في
وطني، وأخيراً لا يمكن أن يكون لهذا الرضا قيمةٌ معنوية بالنسبة إلى المستقبل،
وذلك لأننا نجهله. فأنا أجهل كل الواجبات التي يمكن أن أكلف بأدائها يوماً ما..
فكيف يمكنني إذاً أن أوافق عليها قبل أن تفرض عليّ؟ لكنا قد بينّا في ما سبق أن
مصدر جميع أنواع القهر يوجد خارج شعور الفرد. وحينئذٍ فإذا لم نعتمد إلا على الظاهرة التاريخية وحدها وجدنا أن
ظاهرة الاجتماع تنطوي على نفس خواص الظواهر الأخرى. وإذاً لا بد من تفسيرها بنفس
الطريقة.".
الموجز في "قواعد المنهج السوسيولوجي" لايمل دوركايم بقلم
الأستاذ أحمد السريفي
تقديم الكتاب:
"قواعد المنهج في علم الاجتماع" للفيلسوف المعروف ايمل
دوركايم، وهو الكتاب التاسع، ترجمه إلى اللغة العربية. د/محمود قاسم/ و.د/ السيد محمد
بدوي، سنة 1988. صدر عن دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية، ويضم 296 صفحة، من الحجم
الصغير، لكنه كبير في الأهمية والرصيد العلمي والمعرفي باعتباره القاعدة La
base لعلم الاجتماع، منه كان الانطلاق، وبه كان التأسيس، ولا يزال
المصدر الأول والأساسي في المعرفة السوسيولوجيا.
بين يدي الكتاب:
يبدأ الكتاب بمقدمة للمترجم يؤكد فيها ان المسائل الاجتماعية كانت
موضع اهتمامالمفكرين منذ زمن، إلا أنها لم تكن إلا محاولات في تاريخ نشأة علم
الاجتماع، ولكنهذا العلم لم يهيكل نفسه كعلم إلا أواخر القرن 19، حينما حدد مجال
اشتغاله، والطرقالعلمية لهكذا اشتغال، قصد الكشف عن القوانين التي تخضع لها
الظواهر الاجتماعية،ومعرفتها تتيح لنا الإصلاح والنهوض بالمجتمعات..
ويؤكد أن إميل دوركايم مؤسس المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع هو
الذي حدد مجالبحثه وطرقه العلمية، هذا الفيلسوف أب علم الاجتماع، الذي ولد سنة
1958 من مدينةأبينال وأصبح مدرسا بمدرسة المعلمين، وبعدها مدرسا لعلم الاجتماع
بكلية الآدابببوردو حتى توفي سنة 1917..
وكان دوركايم قد عالج مسألة "تقسيم العمل الاجتماعي"
كأول مسألة اجتماعية له،ونال بها درجة الدكتوراه ثم بعدها حدّد "قواعد المنهج
السوسيولوجي" في هذا الكتابالذي وضعه في صدارة الأساتذة الكبار، حيث أصبحت
هاته القواعد دستور علماء الاجتماعومرجع الباحثين. حيث أن دوركايم نفسه يعترف أن
هذا الكتاب هو من نتائج دراسته عن "تقسيم العمل الاجتماعي" حيث كان هذا الكتاب سببا في بروز
ونشأة المدرسةالاجتماعية.
في هذا السياق ينتقل مترجمو هذا المنجز الدوركايمي العظيم، إلى
الإشارة لمنهجدوركايم في تأليف هذا الكتاب، إذ يرى أن علم الاجتماع ليس تكملة
لعلم النفس، بل هوعلم قائم بذاته، وهو يدرس ظواهر اجتماعية لا يشاركه في دراستها
علم آخر، وبطريقةجديدة ومغايرة لتلك المألوفة لدى العامة.. كما يرى أن للظواهر
الاجتماعية صفاتهاالنوعية التي تتميز بها، وهي توجد خارج شعور الفرد وليس
باستطاعته أن يغير طبيعتهاكما يشاء، لكن لابد له من معرفة القوانين التي تخضع لها،
وهكذا يرى أن الظواهرالاجتماعية أشياء خارجية ومستقلة عن الظواهر البيولوجية
والنفسية، وأنها توجد قبلوجود الفرد، ولابد من دراستها بشكل موضوعي، وانه لن يكون
علما إلا إذا اعتمد الطرقالتجريبية، وكما أن علم النفس ليس تكملة لعلم وظائف
الأعضاء فان علم الاجتماع ليستتمة لعلم النفس، وان الظواهر الاجتماعية هي من جنس
خاص، ويرى دوركايم أن علمالاجتماع وان لم يكن في حاجة إلى علم النفس فانه سوف يوجه
هذا الأخير وجهة جديدة فيدراسة الحالة النفسية لدى الفرد، وكانت هذه الفكرة
المنطلق نحو تأسيس علم النفسالجمعي.
هذا المنجز الدوركايمي الذي تم تقديمه يضم مقدمتين وستة فصول كبيرة
وخاتمة فماهيقواعد العمل السوسيولوجي في الكتاب:
الفصل 1: فيه يعرف دوركايم الظاهرة الاجتماعية ووضح طبيعتها بكونها
ضرب منالسلوك يعمّ المجتمع، ويباشر على الفرد قهرا خارجيا وله وجود خاص
مستقل عن الصورالتي يتشكل بها كل شعور فردي.
الفصل 2: عرض فيه القواعد التي يجب إتباعها في ملاحظة الظواهر
الاجتماعية، فذكرأولا أنه يجب أن "نلاحظ على أنها أشياء، ولا يكون ذلك إلا
بالإقلاع عن استخدامطريقة تحليل الشعور الفردي، وهي التي عاقت تقدم النفس، وشوهت
الدراسات الاجتماعيةوالاقتصادية والأخلاقية، كي يدرس الباحث هذه الظواهر دراسة
علمية صحيحة عليه انيتحرر من كل فكرة سبق أن كوّنها عنها، ولابد له من تحديد
الظواهر وتعريفها بخواصهاالنوعية ودراستها مجردة عن الصور المشكلة في الحالات
الفردية".
الفصل 3: يفرق فيه دوركايم بين نوعين من الظواهر الاجتماعية: سليمة
ومعتلة، أما السليمة فهي التي تعم في المجتمع وترتبط في الوقت نفسه بالشروط
الاجتماعية الحقيقيةفيه, أما المعتلة فهي التي لا ترتبط بالشروط السابقة الذكر ولا
تستمر في البقاء إلابحكم العادة العمياء. ولما طبق دوركايم هاته التفرقة اهتدى
لبعض الحقائق التي أثارتاندهاشه ومنها انه يرى أن "الجريمة ليست ظاهرة معتلة
أي شاذة، بل ظاهرة سليمة لأنهاتوجد في جميع الأنواع الاجتماعية مهما اختلفت...".
الفصل 4: يعرض فيه ضرورة تصنيف الأنواع والنماذج الاجتماعية حتى
يمكن وصفالظواهر بالسلامة أو الاختلال، أما أساس هذا التصنيف فهو الخواص
الجوهرية التيتشترك فيها طائفة من المجتمعات الجزئية، ويطلق اسم المورفولوجية
الاجتماعية على ذلكالفرع الخاص الذي يعنى بتصنيف المجتمعات. فالزمرة أبسط أنواع
المجتمعات، وتليهاالعشيرة وثم البسيطة المتعددة الأجزاء، أي التي تتكون من عشائر
متجاورة فقط، وبعدذلك المجتمعات المتعددة الأجزاء المركبة تركيبا بسيطا. وبعد ذلك
المجتمعات المتعددةالأجزاء المركبة تركيبا مزدوجا، ويختلف هذا التصنيف عما ذهب
إليه آخرون من تحديدللأنواع الاجتماعية على أساس ما وصلت إليه من حضارة.
الفصل 5: خصصه دوركايم لتفسير الظواهر الاجتماعية، ويرى انه لا
يمكن تفسير ظاهرة اجتماعية ما، إلا بظواهر من جنسها والسبب أنه كان يفرق بين شعور
الجماعة وشعورالفرد، وهكذا انتقد كونت وهوبز وروسوا، كما رأى انه يجب التفرقة ما
بين السبب فيوجود الظاهرة الاجتماعية والوظيفة التي يمكن أن تؤديها هذه الظاهرة،
وانه لا يمكنأن تعد وظيفة الظاهرة سببا في وجودها.
الفصل 6: قام خلاله بعرض القواعد المتبعة في إقامة البراهين، وبيان
لمختلف الطرقالاستقرائية التي تُتّبع في العلوم التجريبية في مرحلة تحقيق
الفروض، ويعني بها: طريقة الاتفاق، وطريقة الاختلاف، وطريقة التغيّر النسبي، وطريقة
البواقي. كلهاتعتمد على المقارنة بين الظواهر لمعرفة العلاقات بينها، ويفضل
دوركايم طريقة التغيرالنسبي.
ويشير المترجم إلى أن ترجمة هذا الكتاب لم تكن بالأمر السهل
والهين، بسبب غلبة الطابع العلمي عليه، وكونه مليء بالمصطلحات العلمية والتي يصعب
نقلها للعربية.
ونظرا لكون مقدماته الأولى والثانية هي ذات أهمية كبيرة في الكتاب
فانه لا بأس من وضع إطلالة على أهم ما جاء فيهما استكمالا لموجز هذا الكتاب
الرائع والهام.
مقدمته 1: يرى فيها أن عالم الاجتماع يجب أن لا يخجل أو يتردد في
التمسك بالنتائج التي تفضي إليها أبحاثه إذا قام بهذه الأبحاث بطريقة
علمية سليمة، وعليهأيضا أن يتخلص من الأفكار الجاهزة وغير الممحصة، كما أن طرق
التفكير التي ألفناهاإلفا شديد تعود بالضرر على دراسة الظواهر الاجتماعية.ولذلك
على الباحث أن يأخذ حذرهمن خواطره الأولى. ثم يستطرد دوركايم في شرح ظاهرة الجريمة
وكيف اعتبرها ظاهرةسليمة وتبقى كذلك سليمة مادام يتحقق فيها شرط أن تبقى ظاهرة
بغيضة، كما أن ظاهرةالألم ظاهرة سليمة مادام الألم ممقوتا.
مقدمته 2: ينطلق فيها من أن طبعة الكتاب الأول طرحت الكثير من
المجادلات العنيفة، وان منتقديه قاوموه بشدة لدرجة انه لم يعد يقوى على
الظهور، وأنهم كالواله العديد من الاتهامات التي تخلص إلى نتائج من الدراسة غير الممحصة
لكتابه، وبدأيستطرد في الرد عليها، موضحا أن الإنسان لا يستطيع أن يصل بالمنهج إلا
إلى نتائجمؤقتة. لان المناهج تتغير كلما تقدم العلم، ورغم ذلك فقد استطاع علم
الاجتماعالموضوعي المنهجي القائم بذاته أن يتقدم دون انقطاع خلال السنوات الأخيرة. واستطرددوركايم في الرد على بعض القضايا التي طرحا وأثارت اعتراضات
وأهمها:
- قضية وجوب دراسة الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء، وهو الأساس
الذي تقومعليه طريقة دوركايم، ويوضح انه لم يقل أنّ الظواهر الاجتماعية هي أشياء
مادية وإنماهي جديرة بان توصف بأنها "أشياء" كالظواهر الطبيعية تماما،
ويرى انه يجب على عالمالاجتماع أن يشعر حين يطرق العالم الاجتماعي بأنه يلج عالما
مجهولا، ولا مناص له أنيشعر بأنه وجها لوجه مع بعض الظواهر.
- القضية التي تقول أن الظواهر الاجتماعية تنحصر في ضروب من السلوك
والتفكيرالتي يمكن تمييزها عن غيرها وهي أنها تستطيع التأثير في شعور الأفراد
تأثيراقهريا..
بهذا الكتاب "قواعد المنهج السوسيولوجي" يكون ايمل
دوركايم قد وضع القواعدالأساس في علم الاجتماع وهي القواعد التي أسست بالفعل لمنهج علمي
اجتماعي في البحثالسوسيولوجي.. وبالرغم من أن الكتاب أو القواعد قد صدرت منذ مدة
ليست باليسيرة فانهلا يزال يحتفظ بمكانته الكبرى في السوسيولوجيا عموما ولازال
يعتبر بمثابة دستورجميع الباحثين وعلماء الاجتماع.
كتب بتاريخ: 20/11/2009
ونشر بتاريخ 31/5/2011
مقدمة:
تعتبر
السوسيولوجيا “علما نقديا يتخذ كهدف له تفسير وفهم الميكانيزمات الاجتماعية
الخفية” ، وقد ظهر هذا العلم في القرن 19 نتيجة للتراكم الكمي والكيفي الحاصل في
الدراسات القانونية والسياسية والاقتصادية وبرزت ضرورة قيام علم يهتم بالظواهر
الاجتماعية بما هي اجتماعية خصوصا بعد ظهور مبدأ التخصص في العلوم، بحيث لم تعد
الفلسفة أما للعلوم، وهذا الانفصال ساعد على انطلاق التأسيس لعلم الاجتماع على يد
الآباء المؤسسين : سان سيمون، أوغست كونت، إميل دوركايم، كار ل ماركس، وماكس فيبر.
ليصبح بذلك علما قائما بذاته له مناهجه ونظرياته المتنوعة التي تسعى إلى مقاربة
الظواهر الاجتماعية فأساس السوسيولوجيا –حسب مارسيل موس- هو ملاحظة المجموعة
الاجتماعية وسلوكاتها ملاحظة شمولية والفاعلون الاجتماعيون –حسب بيير
بوريو- لا يعرفون حقيقة ما يفعلون ولماذا؟ والنظرية الاجتماعية تعتبر أن الفاعلين
الاجتماعيين لا يعرفون الأسباب الموضوعية التي تقودهم.
يسعى
السوسيولوجي إلى فهم الظواهر الاجتماعية وسلوكات الأفراد لتفسير دلالاتها معتمدا
على الملاحظة والمعاينة المباشرة للوقائع الاجتماعية لشرح لماذا توجد على نحو ما
وليس على نحو آخر. لتأتي مرحلة التأويل والربط بين واقعة/سلوك وبين العلاقة
الجدلية بين ما هو فردي وما هو جماعي. فالملاحظة حسب دوركايم هي بداية الممارسة
السوسيولوجية ،أن تلاحظ محاولا التخلص من كل حكم قيمة .
وسنحاول
في هذا العرض ان نتطرق الى سوسيولوجية إميل دوركايم واهم المواضيع الذي تناولها في
دراساته السوسيولوجية.
أولا :
لمحة عن حيا ة إميل دوركايم :
عاش
إميل دوركايم في الفترة ما بين 1858 – 1917م. وهو يعد من أوائل الفرنسيين في علم
الاجتماع الذين ساروا في طريق العمل الأكاديمي، أثر تطلعه هذا في نشطه وأفكاره،
فقدر له أن يواجه ظروفا مرتبطة بالعمل الجامعي عكس سابقيه، ابن خلدون وأوجست كونت،
وماركس، الذين كانوا رجال فكر، ورجال حياة عامة. ولد دروكايم في إبينال باللورين،
المقاطعة الفرنسية الشرقية. وأتى ميلاده لأب من الحاخامات اليهود، الذي أراد لابنه
أن يسير على نهج الأسرة، بأن يصبح رجل دين. وقد أراد الابن لنفسه هذا أيضا، ومن ثم
درس العبرية وقرأ كتاب العهد القديم، والتلمود الذي يحوي تعاليم الأحبار الربانيين
الموسويين. وفي الوقت نفسه درس العلوم العلمانية وسار في التعليم الحكومي. وبعد
محاولتين فاشلتين تم قبوله بالمدرسة العليا سنة 1879م. وفيها التقى بعدد من الرجال
الذين تركوا آثارا واضحة على الحياة الفكرية في فرنسا، من أمثال هنري برجسون
الفيلسوف الشهير، وبيير جانيت الباحث في علم النفس، وكان من أكثر أساتذة المدرسة
تأثيرا فيه فوستل دي كولانج مؤلف كتاب (المدينة القديمة) والذي أصبح بعد ذلك مديرا
للمدرسة.
وبعد تخرجه من هذه المدرسة سنة 1882م اشتغل دوركايم بالتدريس في المدارس الثانوية حتى سنة 1887م، ثم أتيح له أن يذهب إلى ألمانيا في إجازة علمية، وهناك تعرف على فكر (فاجنر) و(شمولر) و(فونت) وتأثر بهم وانعكس هذا على موقفه الفلسفي، سواء من الفكر أو من الواقع، هذا بالطبع بجانب تأثره البالغ بفلاسفة عصر التنوير من أمثال (جان جاك روسو) ومرنتسكيو، كما تأثر بالطبع بفكر (سان سيمون ) الذي عده دركايم أستاذه في علم الاجتماع . (1)
وأما عن أبرز الملامح البنائية للمجتمع الذي عاش فيه، فمع أن فرنسا كانت تنؤ في أوائل ومنتصف القرن التاسع عشر بالثورات، إلا أن المسرح السياسي في تسعينات هذا القرن عايش هدوءا نسبيا. وأما عن مجتمعه الذي قضى فيه سنوات الطفولة والتنشئة الاجتماعية الأولى، فقد كان مجتمعا يهوديا محافظا ومتضامنا تسوده علاقات مباشرة، ومع أنه انتقل إلى
وبعد تخرجه من هذه المدرسة سنة 1882م اشتغل دوركايم بالتدريس في المدارس الثانوية حتى سنة 1887م، ثم أتيح له أن يذهب إلى ألمانيا في إجازة علمية، وهناك تعرف على فكر (فاجنر) و(شمولر) و(فونت) وتأثر بهم وانعكس هذا على موقفه الفلسفي، سواء من الفكر أو من الواقع، هذا بالطبع بجانب تأثره البالغ بفلاسفة عصر التنوير من أمثال (جان جاك روسو) ومرنتسكيو، كما تأثر بالطبع بفكر (سان سيمون ) الذي عده دركايم أستاذه في علم الاجتماع . (1)
وأما عن أبرز الملامح البنائية للمجتمع الذي عاش فيه، فمع أن فرنسا كانت تنؤ في أوائل ومنتصف القرن التاسع عشر بالثورات، إلا أن المسرح السياسي في تسعينات هذا القرن عايش هدوءا نسبيا. وأما عن مجتمعه الذي قضى فيه سنوات الطفولة والتنشئة الاجتماعية الأولى، فقد كان مجتمعا يهوديا محافظا ومتضامنا تسوده علاقات مباشرة، ومع أنه انتقل إلى
(1)محمود قاسم، تقديمه لترجمة دور كايم،
قواعد المنهج في علم الاجتماع، مكتبة النهضة المصرية، 1961م، ص4 .
العاصمة
(باريس) حيث المجتمع المتباين فلم ينس ارتباطاته الأولى حتى أن يخيل للمرء أن
تصوره للمجتمع لم يخرج عن هذين النمطين، مجتمع الطفولة البسيط، ومجتمع العاصمة
المعقد، كما اتضح من تصوراته للتضامن الآلي والتضامن العضوي. على أن فهمنا لتصوره
لدور علم الاجتماع يقتضي تفحص علاقته بالفكر الاشتراكي. حيث بدأ ... يهتم ومبكرا
بهذا الفكر، سواء ما قدمه (سان سيمون) أو (ماركس). ففي الوقت الذي كان يطلع فيه
على أنماط هذا الفكر، بدأ يخط التصور الأول لدراسته الشهيرة حول (تقسيم العمل)،
وكانت النتيجة أن صاغ أفكارا ونظريات متأثرة حينا بالمقولات الاجتماعية للاشتراكية
ومناهضة لها أحيانا أخرى ولكن تصوراته كانت تؤكد التضامن الاجتماعي بدلا من الصراع
الاجتماعي.
اهم
النظريات التي عالجها دوركايم :
لدى دوركايم إسهامات عديدة في النظريات الاجتماعية والسياسية, ومن خلال قراءتي سوف اقسم إسهاماته النظرية إلى الآتي :
1. تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي .
2. قواعد المنهج في علم الاجتماع .
3. الانتحار .
4. التفسير الاجتماعي للدين والأخلاق والمعرفة .
5. تطور المجتمعات وأشكالها .
وسوف أتحدث عن كل قسم على حدة :
- 1تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي :
في أول دراسة هامه لدوركايم حدد لنفسه مهمة أساسية تتلخص في التدليل على نمو تقسيم العمل بوصفة يمثل عملية تاريخية ضرورية ويؤدي بالتالي إلى تزايد التضامن الاجتماعي بين الناس .
فهذه( الوظائف ) يؤديها الناس وقد انتظموا في ترتيب طبقي محدد تتباين فيه درجات الثروة والقوة والهيبة الاجتماعية وأيضا إن تطور الصناعة وتقسيم العمل الحاصل به لن يؤدي إلى صراع المصالح والتفكك, لذا على الدولة الاستمرار دعم النسق الأخلاقي العام في المجتمع لكي لايحدث خلاف ذلك .
يعتقد دوركايم إن هناك بعض الإصلاحات الاجتماعية الضرورية التي يتعذر بدونها إقامة عدالة حقيقية وإيجاد تضامن اجتماعي قوي . (3)
يرى دور كايم انه لا يتعين فصل الأخلاق عن العلم وإنما يجب إن نحاول إقامة علم أخلاقي مختلف تماما عن تلك الفلسفة الأخلاقية ويرجع السبب الأساسي في ذلك إلى إن القواعد
لدى دوركايم إسهامات عديدة في النظريات الاجتماعية والسياسية, ومن خلال قراءتي سوف اقسم إسهاماته النظرية إلى الآتي :
1. تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي .
2. قواعد المنهج في علم الاجتماع .
3. الانتحار .
4. التفسير الاجتماعي للدين والأخلاق والمعرفة .
5. تطور المجتمعات وأشكالها .
وسوف أتحدث عن كل قسم على حدة :
- 1تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي :
في أول دراسة هامه لدوركايم حدد لنفسه مهمة أساسية تتلخص في التدليل على نمو تقسيم العمل بوصفة يمثل عملية تاريخية ضرورية ويؤدي بالتالي إلى تزايد التضامن الاجتماعي بين الناس .
فهذه( الوظائف ) يؤديها الناس وقد انتظموا في ترتيب طبقي محدد تتباين فيه درجات الثروة والقوة والهيبة الاجتماعية وأيضا إن تطور الصناعة وتقسيم العمل الحاصل به لن يؤدي إلى صراع المصالح والتفكك, لذا على الدولة الاستمرار دعم النسق الأخلاقي العام في المجتمع لكي لايحدث خلاف ذلك .
يعتقد دوركايم إن هناك بعض الإصلاحات الاجتماعية الضرورية التي يتعذر بدونها إقامة عدالة حقيقية وإيجاد تضامن اجتماعي قوي . (3)
يرى دور كايم انه لا يتعين فصل الأخلاق عن العلم وإنما يجب إن نحاول إقامة علم أخلاقي مختلف تماما عن تلك الفلسفة الأخلاقية ويرجع السبب الأساسي في ذلك إلى إن القواعد
(3) تقسيم العمل
الاجتماعي. إميل دوركايم
الأخلاقية إنما ترتبط
ارتباطا وثيقا بظروف الحياة الاجتماعية والتي تعتبر نسبية من حيث الزمان والمكان
وهكذا يسعى علم الظواهر الأخلاقية إلى تحليل اثر الصور المتغيرة للمجتمع في تغير
طابع المعايير الأخلاقية محاولا ملاحظة ووصف وتصنيف هذه المعايير .
يعتقد دور كايم إن تقسيم العمل ظاهرة ليست حديثة النشأة ولكن الجانب الاجتماعي لها أخذ يظهر بوضوح منذ وآخر القرن الثامن عشر .
دوركيم يؤيد وجهة نظر العالم أوجست كونت الذي يقول إن تقسيم العمل ليس مجرد ظاهرة اقتصادية وإنما شرط أساسي للحياة .
انتقل دور كايم بعد ذلك الى البحث عما إذا كانت هناك نماذج متعددة للتضامن الاجتماعي , وانتهى إلى وجود نموذجين أساسيين للتضامن هما التضامن الالى والتضامن العضوي .
فالتضامن الآلي يسود في المجتمعات البدائية أو التقليدية حيث يسود في المجتمع شعور قوي بينما يرتبط التضامن العضوي بالمجتمعات الحديثة التي يزداد فيها تقسيم العمل, فكان المجتمع الذي ينتشر فيه التضامن الالى هو المجتمع الانقسامي, ويتميز هذا المجتمع بسمات اجتماعية خاصة, إذ يغلب على السلوك الإنساني فيه التجانس الاجتماعي, والذي تكون فيه الأفكار والمعتقدات والعادات والآراء , وطرائق السلوك الفردي ولجماعي, أما من حيث القانون والأخلاق والضبط الاجتماعي فهناك ولاء ملحوظ للضمير الجمعي الذي يعني مجموعة المعتقدات والعواطف العامة بين أعضاء المجتمع
والتي تكون نسقا خاصا ومثل هذا الضمير العام له وجوده الخاص المتميز فهو يدوم عبر الزمن , ويعمل على توحيد الأجيال , والضمير الجمعي يعيش بين الأفراد لكنه يتميز بالقوة والاستقلال وبخاصة حينما تزداد رجة التشابه بين الأفراد وهذا من وجهة نظر دوركايم .
ما الذي يؤدي إلى زيادة تقسيم العمل ؟ يجيب دوركايم إن تقسيم العمل يختلف باختلاف حجم المجتمع وكثافة السكان, وشدة التفاعل الاجتماعي, فازدياد عدد السكان هو العامل الأساسي لتقسيم العمل فقد ترتب على ذلك شدة الصراع من اجل البقاء والاستمرار فكثرة العدد تفرض على الناس ضرورة التخصص المهني, مما يقلل من حدة الصراع, ويتيح فرصة أوسع للحصول على وسائل الحياة .
- 2 قواعد المنهج في علم الاجتماع :
ينظر دور كايم إلى علم الاجتماع من حيث كونه يهتم بدراسة المجتمع وما ينبعث عنه من ظواهر دراسة علمية وصفية تحليلية ولكي يحقق العلم هذه الغاية فانه لابد من منهج علمي يستطيع بفضله إلى الوصول إلى قوانين الظواهر ولقد وضع دوركايم الخصائص التي يجب إن تتميز بها دراسات علم الاجتماع والتي يمكن إيجازها في الآتي :
1. يجب دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء بمعنى إن تخضع للملاحظة والتجربة .
2. يجب على الباحث إن يتحرر من كل فكرة سابقة يعرفها عن الظاهرة حتى لا يقع أسير الأفكار الشخصية .
3. يجب على الباحث إن يبتدا بتعريف الظاهرة التي يتخذها مادة للدراسة .
4. يجب على الباحث عند دراسة طائفة خاصة من الظواهر الاجتماعية إن يبذل قصارى جهده في ملاحظة هذه الظواهر من الناحية التي تبدو فيها مستقلة عن مظاهرها الفردية .
أما فيما يتعلق بقواعد أو خطوات المهج فتتلخص في الآتي :
1. دراسة نشأة الظاهرة والوقوف على عناصرها لان الظاهرة شئ معقد وتتألف من أجزاء كثيرة .
2. دراسة تطور الظواهر والوقوف على مختلف أشكالها .
3. دراسة علاقات التي تربط الظاهرة بما عداها من الظواهر التي تنتمي إلى شعبتها .
4. الانتفاع بمطلق المقارنة في دراسة الظواهر .
5. الكشف عن الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها الظاهرة وما خضعت له هذه الوظيفة من تطور وذك في ضوء دراسة تاريخ الظاهرة .
6. تحديد القوانين التي يصل إليها الباحث من دراساته ويجب صياغة هذه القوانين بدقة لأنها هي التي تكون مادة العلم . (4)
- 3 الانتحار :
ظهرت دراسة دوركايم الهامة عن الانتحار وذلك بعد مضي عامين على نشر مؤلفه قواعد
يعتقد دور كايم إن تقسيم العمل ظاهرة ليست حديثة النشأة ولكن الجانب الاجتماعي لها أخذ يظهر بوضوح منذ وآخر القرن الثامن عشر .
دوركيم يؤيد وجهة نظر العالم أوجست كونت الذي يقول إن تقسيم العمل ليس مجرد ظاهرة اقتصادية وإنما شرط أساسي للحياة .
انتقل دور كايم بعد ذلك الى البحث عما إذا كانت هناك نماذج متعددة للتضامن الاجتماعي , وانتهى إلى وجود نموذجين أساسيين للتضامن هما التضامن الالى والتضامن العضوي .
فالتضامن الآلي يسود في المجتمعات البدائية أو التقليدية حيث يسود في المجتمع شعور قوي بينما يرتبط التضامن العضوي بالمجتمعات الحديثة التي يزداد فيها تقسيم العمل, فكان المجتمع الذي ينتشر فيه التضامن الالى هو المجتمع الانقسامي, ويتميز هذا المجتمع بسمات اجتماعية خاصة, إذ يغلب على السلوك الإنساني فيه التجانس الاجتماعي, والذي تكون فيه الأفكار والمعتقدات والعادات والآراء , وطرائق السلوك الفردي ولجماعي, أما من حيث القانون والأخلاق والضبط الاجتماعي فهناك ولاء ملحوظ للضمير الجمعي الذي يعني مجموعة المعتقدات والعواطف العامة بين أعضاء المجتمع
والتي تكون نسقا خاصا ومثل هذا الضمير العام له وجوده الخاص المتميز فهو يدوم عبر الزمن , ويعمل على توحيد الأجيال , والضمير الجمعي يعيش بين الأفراد لكنه يتميز بالقوة والاستقلال وبخاصة حينما تزداد رجة التشابه بين الأفراد وهذا من وجهة نظر دوركايم .
ما الذي يؤدي إلى زيادة تقسيم العمل ؟ يجيب دوركايم إن تقسيم العمل يختلف باختلاف حجم المجتمع وكثافة السكان, وشدة التفاعل الاجتماعي, فازدياد عدد السكان هو العامل الأساسي لتقسيم العمل فقد ترتب على ذلك شدة الصراع من اجل البقاء والاستمرار فكثرة العدد تفرض على الناس ضرورة التخصص المهني, مما يقلل من حدة الصراع, ويتيح فرصة أوسع للحصول على وسائل الحياة .
- 2 قواعد المنهج في علم الاجتماع :
ينظر دور كايم إلى علم الاجتماع من حيث كونه يهتم بدراسة المجتمع وما ينبعث عنه من ظواهر دراسة علمية وصفية تحليلية ولكي يحقق العلم هذه الغاية فانه لابد من منهج علمي يستطيع بفضله إلى الوصول إلى قوانين الظواهر ولقد وضع دوركايم الخصائص التي يجب إن تتميز بها دراسات علم الاجتماع والتي يمكن إيجازها في الآتي :
1. يجب دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء بمعنى إن تخضع للملاحظة والتجربة .
2. يجب على الباحث إن يتحرر من كل فكرة سابقة يعرفها عن الظاهرة حتى لا يقع أسير الأفكار الشخصية .
3. يجب على الباحث إن يبتدا بتعريف الظاهرة التي يتخذها مادة للدراسة .
4. يجب على الباحث عند دراسة طائفة خاصة من الظواهر الاجتماعية إن يبذل قصارى جهده في ملاحظة هذه الظواهر من الناحية التي تبدو فيها مستقلة عن مظاهرها الفردية .
أما فيما يتعلق بقواعد أو خطوات المهج فتتلخص في الآتي :
1. دراسة نشأة الظاهرة والوقوف على عناصرها لان الظاهرة شئ معقد وتتألف من أجزاء كثيرة .
2. دراسة تطور الظواهر والوقوف على مختلف أشكالها .
3. دراسة علاقات التي تربط الظاهرة بما عداها من الظواهر التي تنتمي إلى شعبتها .
4. الانتفاع بمطلق المقارنة في دراسة الظواهر .
5. الكشف عن الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها الظاهرة وما خضعت له هذه الوظيفة من تطور وذك في ضوء دراسة تاريخ الظاهرة .
6. تحديد القوانين التي يصل إليها الباحث من دراساته ويجب صياغة هذه القوانين بدقة لأنها هي التي تكون مادة العلم . (4)
- 3 الانتحار :
ظهرت دراسة دوركايم الهامة عن الانتحار وذلك بعد مضي عامين على نشر مؤلفه قواعد
(4) ايمل دوركايم،
قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمد قاسم
المنهج في الاجتماع
وأول خطوة بدئها دوركايم بأنه عرف الانتحار حيث واجه صعوبة في ذلك إلى إن خلص إلى
إن الانتحار هو كل حالات الموت التي يكون نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لفعل سلبي أو
ايجابي قام به المنتحر نفسه, وهو يعلم انه سيؤدي إلى هذه النتيجة .
وبعد إن يحدد دوركايم تعريف الانتحار ينتقل إلى مناقشة نقطة أخرى ذات أهمية وهي المجموع الكلي لحالات الانتحار في بلد معين يسمح لنا إن بحسب معل الانتحار وهذا المعدل هو(الظاهرة الاجتماعية)
بعد ذلك حلل الانتحار من ناحية غير اجتماعية مثل ربط الانتحار بالمرض العقلي وأيضا ربط الانتحار بالعوامل الكونية وأخيرا ربط الانتحار بالتقليد والمحاكاة وبعد ذلك يعتقد دوركايم بعد إن فرغ من دراسته لجميع هذه الأمور انه قد نجح في استبعاد العوامل الغير اجتماعية وبذلك ينتقل مباشرة إلى معالجة الأسباب الاجتماعية والمواقف الاجتماعية التي تحدد هذه الأسباب .
حاول دوركايم جمع حالات الانتحار في ثلاثة نماذج حيث يتضمن كل نموذج مجموعة من الأسباب الاجتماعية والنماذج الثلاثة للانتحار هي :
1. الانتحار الأناني .
2. الانتحار الغيري أو الايثاري .
3. الانتحار الانومي .
وبعد إن يحدد دوركايم تعريف الانتحار ينتقل إلى مناقشة نقطة أخرى ذات أهمية وهي المجموع الكلي لحالات الانتحار في بلد معين يسمح لنا إن بحسب معل الانتحار وهذا المعدل هو(الظاهرة الاجتماعية)
بعد ذلك حلل الانتحار من ناحية غير اجتماعية مثل ربط الانتحار بالمرض العقلي وأيضا ربط الانتحار بالعوامل الكونية وأخيرا ربط الانتحار بالتقليد والمحاكاة وبعد ذلك يعتقد دوركايم بعد إن فرغ من دراسته لجميع هذه الأمور انه قد نجح في استبعاد العوامل الغير اجتماعية وبذلك ينتقل مباشرة إلى معالجة الأسباب الاجتماعية والمواقف الاجتماعية التي تحدد هذه الأسباب .
حاول دوركايم جمع حالات الانتحار في ثلاثة نماذج حيث يتضمن كل نموذج مجموعة من الأسباب الاجتماعية والنماذج الثلاثة للانتحار هي :
1. الانتحار الأناني .
2. الانتحار الغيري أو الايثاري .
3. الانتحار الانومي .
- 4 التفسير الاجتماعي للدين عند دوركايم :
حاول دوركايم في كتابه عن ( الصور الأولية للحياة الدينية ) إن يقدم لنا تحليلا دقيقا لصور ومصادر وطبيعة وأثار الدين من نفس ديانته السوسيولوجية. وحاول أيضا دو كايم إن يبحث عن أصل الدين وذلك بتحليل الدين في أكثر المجتمعات البدائية, يعتقد دو كايم إن التغيرات في الشكل تؤدي إلى تغيرات جوهرية في الطبيعة, ويرى إن الوقوف على تطور المجتمع من البسيط إلى المركب سوف يحدد لنا مجرى التطور الاجتماعي .
يؤكد دو كايم على إن علم الاجتماع له منهجا مخالفا لدراسة الظاهرة الدينية, الدين بالنسبة لدوركايم يجب إن يدرس كحقيقة اجتماعية .
دوركايم يرفض تفسير الدين على انه نتاج تقسيمات عقلية زائفة أو توهم ناجما عن ضغط مشاعر معينة .
حاول دوركايم معرفة أصل الديانات من خلال إحدى القبائل الاسترالية التي تسمى الارونتا والتي كانت في نظرة تمثل مرحلة أولى في النمو التطورية فوجد إن أصل الديانات ديانة تعرف باسم التوتمية وهي أكثر صور الدين بساطة وتشير الطوطميةإلى اعتقاد داخلي في قوة غيبية أو مقدسة أو في مبدأ يحدد مجموعة من الجزاءات يتعين تطبيقها على كل من يحاول انتهاك المحرمات ويعمل في الوقت ذاته على دعم المسئوليات الأخلاقية في الجماعة .
- 5 نمط المجتمع عند دوركايم :
إن نمط المجتمع عند دوركايم يقوم على صورة التماسك الاجتماعي السائدة في مجتمع ما فثمة مجتمع يسوده التماسك الالى وانخفاض في تقسيم العمل وثمة مجتمع آخر يسوده التماسك العضوي ويتميز بتعقد تقسيم العمل ويصور الجدول التالي أنماط التماسك الاجتماعي عند دوركايم :
م العوامل التضامن الآلي التضامن العضوي
1 السلوك تسيطر عليه التقاليد ومعتقدات وآراء متماثلة تزايد الفردية وينمي التخصص في العمل الفردي .
2 القوانين والأخلاق والضوابط الاجتماعية يتحكم فيه العقاب القهري التأكيد على الصواب والعقاب
3 البناء السياسي الاجتماعات العامة قيام علاقات التعاقد بين الحكومة والمواطنين
4 الاقتصاد المشاركة والملكية المشاعة الملكية التعاقدية والخاصة
5 الدين الطوطمية*النزعة القبلية والتعصب لموطن الإقامة وحدانية الله
6 الانتحار الغيري في سبيل المجاعة الأناني* والانتحار بالا مبرر نتيجة الانحراف عن المعايير .
ثالثا : إميل دوركايم و
علم الاجتماع .
1. أشار (دوركايم) أكثر من مرة إلى ما أطلق عليه (الفروع الخاصة) لعلم الاجتماع وكان يحبذ صراحة ازدهار هذه الفروع ونموها على نطاق واسع . وقال في هذا: إن علم الاجتماع لا يستطيع أن يصبح علما إلا إذا تخلى عن دعواه الأولى في الدراسة الشاملة للواقع الاجتماعي برمته، وإلا إذا ميز بين مزيد من الأجزاء والعناصر، والجوانب التي يمكن أن تتخذ موضوعات لمشكلات محددة .
وقد أيد دوركايم البدء في علم الاجتماع بالمرحلة التي أسماها (كونت) مرحلة التخصص. وقبل دوركايم صراحة فكرة أن علم الاجتماع يجب أن يختص بطائفة واسعة من النظم والعمليات الاجتماعية. وكتب على سبيل المثال في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع) أن علم الاجتماع – شأنه شأن الكثير من العلوم الاجتماعية – له من الفروع بقدر التنوعات الموجودة في الظاهرات الاجتماعية. ومع هذا الإلحاح في التقسيمات الفرعية للعلم، كان يصف علم الاجتماع بأنه (علم دراسة المجتمعات).
2. . نسجت الفلسفة الوضعية التي عبر عنها (كونت) عن تصوره لعلم الاجتماع خيوط فكر دوركايم، ويتبدى هذا بوضوح في تأكيده على ضرورة تناول الظاهرات الاجتماعية كأشياء، وهو التأكيد الذي يعني صراحة أو ضمنا محاكاة العلوم الطبيعية وتطبيق نظرتها وتصوراتها للظاهرات الطبيعية على الظاهرات المجتمعية.(5) ويتأكد هذا التوجه لدى (دوركايم) من أخذه بالفكر العضوي الذي أقام مماثلة بين الظاهرة الاجتماعية، والظاهرة البيولوجية. وفي هذا يقرر ( رادكليف براون) أحد مؤسسي الاتجاه الوظيفي في علم الاجتماع، أن دوركايم هو أول من أقام المماثلة بين المجتمع والحياة العضوية على أساس وظيفي. فكما أن حياة الكائن العضوي تعبير عن البناء العضوي ووظائفه. فإن الحياة الاجتماعية تعبير وظيفي عن البناء الاجتماعي.
1. أشار (دوركايم) أكثر من مرة إلى ما أطلق عليه (الفروع الخاصة) لعلم الاجتماع وكان يحبذ صراحة ازدهار هذه الفروع ونموها على نطاق واسع . وقال في هذا: إن علم الاجتماع لا يستطيع أن يصبح علما إلا إذا تخلى عن دعواه الأولى في الدراسة الشاملة للواقع الاجتماعي برمته، وإلا إذا ميز بين مزيد من الأجزاء والعناصر، والجوانب التي يمكن أن تتخذ موضوعات لمشكلات محددة .
وقد أيد دوركايم البدء في علم الاجتماع بالمرحلة التي أسماها (كونت) مرحلة التخصص. وقبل دوركايم صراحة فكرة أن علم الاجتماع يجب أن يختص بطائفة واسعة من النظم والعمليات الاجتماعية. وكتب على سبيل المثال في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع) أن علم الاجتماع – شأنه شأن الكثير من العلوم الاجتماعية – له من الفروع بقدر التنوعات الموجودة في الظاهرات الاجتماعية. ومع هذا الإلحاح في التقسيمات الفرعية للعلم، كان يصف علم الاجتماع بأنه (علم دراسة المجتمعات).
2. . نسجت الفلسفة الوضعية التي عبر عنها (كونت) عن تصوره لعلم الاجتماع خيوط فكر دوركايم، ويتبدى هذا بوضوح في تأكيده على ضرورة تناول الظاهرات الاجتماعية كأشياء، وهو التأكيد الذي يعني صراحة أو ضمنا محاكاة العلوم الطبيعية وتطبيق نظرتها وتصوراتها للظاهرات الطبيعية على الظاهرات المجتمعية.(5) ويتأكد هذا التوجه لدى (دوركايم) من أخذه بالفكر العضوي الذي أقام مماثلة بين الظاهرة الاجتماعية، والظاهرة البيولوجية. وفي هذا يقرر ( رادكليف براون) أحد مؤسسي الاتجاه الوظيفي في علم الاجتماع، أن دوركايم هو أول من أقام المماثلة بين المجتمع والحياة العضوية على أساس وظيفي. فكما أن حياة الكائن العضوي تعبير عن البناء العضوي ووظائفه. فإن الحياة الاجتماعية تعبير وظيفي عن البناء الاجتماعي.
(5) محمد عاطف غيث، علم
الاجتماع، -ط – النظرية والمنهج والموضوع، دار القاهرة ص 46 .
3. من بين أهم ما اهتم
به (دوركايم) محاولته تحديد الظاهرة الاجتماعية وتشخيصها، بوصفها الموضوع الأساسي
لعلم الاجتماع. وفي هذا حدد لها من الخصائص التي يفيد التركيز فيها في معرفة موقفه
من المسألة السوسيولوجية والمسألة المجتمعية فالظاهرة الاجتماعية أولا تلقائية
بمعنى أن الفرد ليس بصانعها لأنها موجودة قبل أن يوجد الأفراد. فنحن نولد ونجد
أمامنا مجتمعا كاملا معدا من قبل لا نستطيع أن نغيره إذا أردنا، وعلينا أن نخضع
له. وهي ثانيا جبرية وملزمة فليس الفرد حرا في إتباع النظام الاجتماعي أو الخروج
عليه .. فالمجتمع وضع الجزاء لكل من ينحرف بسلوكه عما اقتضته الحياة الاجتماعية
ونظر المجتمع الذي يعيش فيه. وهي ثالثا عامة بمعنى أنها لا توجد في مكان دون آخر.
ورابعا فالظاهرة الاجتماعية وهي ثالثا عامة بمعنى أنها لا توجد في مكان دون أخر.
ورابعا فالظاهرة الاجتماعية خارجية بمعنى أن لها سابقة على الأفراد ومستقلة عنهم،
بحيث يمكن ملاحظتها منفصلة عن الحياة الفردية، بما يمكن من دراستها موضوعية على
أنها أشياء.(6)
محمد عاطف غيث : نفس
المرجع (5)
4. فيما يتعلق بتطور المجتمع
عنده يذكر نصا في كتابه (قواعد المنهج) – الذي يعد تلخيصا للكثير من تصوراته لعلم
الاجتماع، وللمجتمع – يذكر أن العامل الفعال الوحيد الذي يؤثر في المجتمع هو
البيئة الاجتماعية بمعنى الكلمة ونعني بها البيئة الإنسانية. وحينئذ فيجب على عالم
الاجتماع أن يبذل مجهوده الرئيسي في الكشف عن مختلف خواص هذه البيئة الإنسانية
التي تستطيع التأثير في تطور الظاهرات الاجتماعية . ولقد اهتدينا حتى الآن إلى
نوعين من الخواص التي يتحقق فيها الشرط السابق بصفة شديدة الوضوح. أما النوع الأول
فهو (عدد الوحدات الاجتماعية ) أو ما سبق أن أطلقنا عليه اسم حجم المجتمع. وأما
النوع الثاني فهو درجة تركز (الكتلة الاجتماعية) أو ما سبق أن أطلقنا عليه اسم
(الكثافة الديناميكية). ويجب ألا يفهم هذا المصطلح الأخير على أنه يعبر فحسب عن
درجة التركز المادي التي لا تؤثر تأثيرا واضحا مادامت هناك بعض الفجوات الروحية
التي تفصل بين الأفراد، أو تفصل بالأحرى بين مجموعات الأفراد، بل يجب أن يفهم هذا
المصطلح أيضا على أنه يعبر عن الصلات الروحية الوثيقة التي لا يعد التركيز المادي
إلا تابعا لها، أو بصفة عامة إحدى نتائجها .. وبهذا يمكن تحديد الكثافة بعدد
الأفراد الذين يعيشون حياة مشتركة إلى جانب ما يتبادلونه من خدمات وما يوجد بينهم
من تنافس وليس من الممكن أن تتأثر الحياة الاجتماعية إلا بعدد الأفراد الذين
يشتركون اشتراكا فعليا في هذه الحياة. ولهذا السبب كانت درجة الالتئام بين الأجزاء
الاجتماعية التي يتكون منها أي شعب من الشعوب هي خير وسيلة تعبر عن كثافته
الديناميكية ..(6) والحالة التي توجد عليها هذه البيئة – في كل لحظة تخضع هي نفسها
لبعض الأسباب الاجتماعية، وهذه الأسباب على نوعين: فمنها ما هو جزء لا يتجزأ من
بقية المجتمع، ومنها ما يرجع إلى التأثير المتبادل بين هذا المجتمع وبين المجتمعات
الني تجاوره.
والمدقق في هذا النص يستطيع أن يتبين أولا أن كثافة المجتمع، وتقسيم العمل والاتصال بمجتمعات أخرى عوامل بارزة في التطور والتغير الاجتماعي .. ويستطيع أن يتبين ثانيا أنه يعتبر الواقع المادي الموضوعي – ليس فقط الواقع الاقتصادي – تابعا للأفكار والتصورات، أو بصفة عامة لمظاهر الوعي الجمعي المتمثل في وجود قيم مشتركة بين الأفراد.
والمدقق في هذا النص يستطيع أن يتبين أولا أن كثافة المجتمع، وتقسيم العمل والاتصال بمجتمعات أخرى عوامل بارزة في التطور والتغير الاجتماعي .. ويستطيع أن يتبين ثانيا أنه يعتبر الواقع المادي الموضوعي – ليس فقط الواقع الاقتصادي – تابعا للأفكار والتصورات، أو بصفة عامة لمظاهر الوعي الجمعي المتمثل في وجود قيم مشتركة بين الأفراد.
(6) ايمل دوركايم،
قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمد قاسم مصدر مذكور، ص 229 – 233.
5. يمثل كتابه تقسيم العمل الاجتماعي أهمية كبرى في التعرف على الفكر الدوركايمي، لأنه كان موضوع أطروحته للحصول على الدكتوراه، ولأنه العمل الرئيسي الذي قد يلي (قواعد المنهج) في الأهمية، من وجهة نظر دارسي نظرية علم الاجتماع، لأنه من خلال قضاياه وأفكاره يبين لنا تأثره الواضح بفكر (أوجيست كونت) بل وبالمماثلات البيولوجية التي عقدها صراحة وضمنا مع المجتمع الإنساني. وإذا أردنا اختصار الوقت والصفحات لعرض الفكرة المحورية لهذا الكتاب فلن نجد خيرا من (ريمون آرون) عالم الاجتماع الفرنسي الذي ألم بكتابات (دوركايم) سياقا ولغة وتحليلا. يذهب (ريمون آرون) في كتاب (التيارات الأساسية في الفكر السوسيولوجي ) إلى أن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها كتاب (تقسيم العمل) تتركز في التصور الدوركايمي لتحديد العلاقة بين الفرد والمجموع. ويعرض (آرون) المسألة من خلال التساؤل التالي: كيف يقيم جمع من الأفراد مجتمعا؟ وكيف ينجزون الشرط الضروري – الوعي – لوجودهم الاجتماعي؟ لكي يجيب دوركايم على هذا السؤال أقام تمييزا واضحا بين نمطين من التضامن: التضامن الآلي والتضامن العضوي. تتحدد أهم خصائص مجتمع التضامن الآلي بضيق الاختلاف والفوارق بين الأفراد وانحسارها إلى أقل درجة ممكنة. فالأفراد في هذا المجتمع متشابهون، لهم نفس المشاعر والأحاسيس، ويتمسكون بنفس القيم ويتفقون على نفس الأشياء المقدسة. وبعبارة موجزة أفراد هذا الجمع متجانسون لأنهم لم يتباينوا ولم يتغيروا بعد. وعلى النقيض من هذا النمط يكون التضامن العضوي، الذي يأتي تضامن الأفراد وتماسكهم فيه نتاجا لتباينهم، وتعبيرا عن هذا التباين في الوقت نفسه. ولأن الأفراد يتغايرون ويتبادلون فهم يتفقون ويحدث بينهم الالتقاء. وهنا يطرح(آرون) التساؤل التالي: لماذا عن لـ (دوركايم) أن ينطلق على التضامن القائم على التباين تضامنا عضويا؟ هنا تدخل المسألة البيولوجية للتبرير والتوضيح. فمكونات الكائن الحي لا تتشابه، أليس المسألة البيولوجية للتبرير والتوضيح. فمكونات الكائن الحي لا تتشابه، أليس العقل مختلفا عن القلب وعن الرئتين؟ بلى، فهذه الأعضاء متغايرة لكنها ضرورية ولا غنى عنها للجسم بالتساوي، فكل يؤدي وظيفته.(7)
(7) إميل دوركايم :
قواعد المنهج في علم الاجتماع، مصدر مذكور، ص 70 – 74 .
ولكن ما الذي ينقل المجتمع من الحالة الآلية إلى العضوية؟ يحدد (دوركايم) هذا كما هو مبين في الفقرة السابقة مباشرة في الكثافة الاجتماعية، والتقسيم الاجتماعي للعمل، وأنماط الاتصال التي تيسر التلاحم بين الأفراد وبالتالي الاتفاق والاشتراك القيميين وبين البيئة الاجتماعية وما يحيط بها من عوالم .
6. تتلخص الأبعاد المنهجية لبحثه للظاهرات الاجتماعية في ضرورة دراسة هذه الظاهرات كأشياء، وتحرر الباحث من كل فكرة يعرفها عن الظاهرة موضوع دراسته. وأما عن أساليبه البحثية فتتمثل في الملاحظة والمقارنة، وتتبع تطور الظاهرة، وتفسيرها تفسيرا وظيفيا من خلال إنجازاتها وأدوارها في السياق البنائي الكلي.
7. وأخيرا يتحدد المسعى العلمي لديه في الكشف عن القوانين التي تحكم الظاهرات الاجتماعية، وذلك لهدف مجتمعي هو علاج المشكلات الاجتماعية، حتى نصل بالمجتمع إلى التضامن الاجتماعي المنشود وتقسيم العمل الوظيفي الفعال. فكأن الغايات العلمية الأقرب إلى البرجماتية هي المخرج النهائي ( ولا يستحق علم الاجتماع لحظة عناء واحدة إن لم تكن له فوائد علمية، لكنها فوائد تسير صوب تدعيم الأوضاع القائمة .
رابعا
: بعض الانتقادات التي وجهت الى دوركايم:
لقد تثمل جهد دوركايم
في محاولته المنهجية وإبرازه بعض الخصائص النوعية للظاهرة الاجتماعية. أما مخرج
دراساته وآرائه فيعوزه الكثير من الصدق العلمي. فما عده عاما (كتقسيم العمل) عده
آخرون من أمثال (ريمون آرون) ثانويا وسطحيا، لأنه لم يفسر لماذا يحدث تقسيم
العمل .
لقد حاول دوركايم أن يصنع شيئا، وأن يفهم المجتمع، لكنه لم يكن أصيلا في مسعاه: فقد أخذ من سان سيمون، وأوجست كونت، وحاكى ماركس. و‘ليك الأدلة التي تدعم الرأي القائل إن أهم ما يراه البعض أنه من إبداعاته، كان ردود أفعال متفاوتة في الدقة والإتقان في المحاكاة والتأليف :
أ- يؤكد (رادكليف براون) أنه أول من دعم استخدم المماثلة البيولوجية في علم الاجتماع، وبالتالي أجهض محاولته لإبراز الطابع النوعي لعلم الاجتماع .
ب- يوضح كليفورد فوجان وزميلاه سكوتفورد ونورثون من خلال تحليلهما ومتابعتهما لأعمال دوركايم أنه أراد أن يبدأ وضعيا بدراسة الظاهرات الاجتماعية كأشياء، وبالتركيز على أبعادها الخارجية، القابلة للملاحظة، لكنه في مسلكه سقط في المثالية لأنه علق كل شيء تقريبا على (التصورات الجمعية) والمشاعر والقيم المشتركة، ونظرا لصعوبة دراسة هذه الأبعاد وضعيا كأشياء فقد استبدل التحليل السوسيولوجي بالتوجيه السيكولوجي الاستنباطي. قد كان في صراع بين إقدام وإحجام موزعين بين الوضعية، والوقوف ضد النزعة الفردية، وبالتالي عندما أراد إنكار(الفردية) أضحى مثاليا، وعندما أراد أن يحافظ على الوضعية أضحى سيكولوجيا مما جعله ينتهي إلى عكس ما بدأ، ويصل إلى ما هو مخالف لما أراده لعلم الاجتماع . (8)
ج- يتفق (رايت ميلز) و(ارفينج زايتلن) و(ألفن جولدنار) على التوالي على. تأثر دوركايم بماركس، خاصة فيما يتعلق بقضية الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي .
لقد حاول دوركايم أن يصنع شيئا، وأن يفهم المجتمع، لكنه لم يكن أصيلا في مسعاه: فقد أخذ من سان سيمون، وأوجست كونت، وحاكى ماركس. و‘ليك الأدلة التي تدعم الرأي القائل إن أهم ما يراه البعض أنه من إبداعاته، كان ردود أفعال متفاوتة في الدقة والإتقان في المحاكاة والتأليف :
أ- يؤكد (رادكليف براون) أنه أول من دعم استخدم المماثلة البيولوجية في علم الاجتماع، وبالتالي أجهض محاولته لإبراز الطابع النوعي لعلم الاجتماع .
ب- يوضح كليفورد فوجان وزميلاه سكوتفورد ونورثون من خلال تحليلهما ومتابعتهما لأعمال دوركايم أنه أراد أن يبدأ وضعيا بدراسة الظاهرات الاجتماعية كأشياء، وبالتركيز على أبعادها الخارجية، القابلة للملاحظة، لكنه في مسلكه سقط في المثالية لأنه علق كل شيء تقريبا على (التصورات الجمعية) والمشاعر والقيم المشتركة، ونظرا لصعوبة دراسة هذه الأبعاد وضعيا كأشياء فقد استبدل التحليل السوسيولوجي بالتوجيه السيكولوجي الاستنباطي. قد كان في صراع بين إقدام وإحجام موزعين بين الوضعية، والوقوف ضد النزعة الفردية، وبالتالي عندما أراد إنكار(الفردية) أضحى مثاليا، وعندما أراد أن يحافظ على الوضعية أضحى سيكولوجيا مما جعله ينتهي إلى عكس ما بدأ، ويصل إلى ما هو مخالف لما أراده لعلم الاجتماع . (8)
ج- يتفق (رايت ميلز) و(ارفينج زايتلن) و(ألفن جولدنار) على التوالي على. تأثر دوركايم بماركس، خاصة فيما يتعلق بقضية الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي .
(8) عبد الباسط عبد
المعطى : اتجاهات نظرية في علم الاجتماع:سلسلة عالم المعرفة 1981
فرايت ملز يرى أن
(دوركايم) قرأ (ماركس) وأراد أن يثبت عكس ما وصل إليه بشأن أسبقية الوجود على
الوعي .
- أما زايتلن فيرى أن (ماركس) كان شبحا ظل يحاكيه ويناوره كانت أتى بعده وفي مقدمتهم (دوركايم .
- وجولدنر، فيذهب إلى أن دوركايم أراد أن يخالف(ماركس) لكنه لم يستطع إلا أن يلتقي معه، ولو على هوامش الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي. فهو يرى أن وجود المجتمع سابق لوجود الفرد، والوعي الجمعي سابق للوعي الفردي، والوجود الاجتماعي ليس متحددا لديه بمتغيرات مستقلة أكثر أهمية من غيرها، إنما اعتبر كل المجتمع وجودا اجتماعيا، بمعنى أنه وسع من نطاق الوجود الاجتماعي ولم يحدده بالعلاقات الإنتاجية، كنقطة بدء مهمة. ويدلل (جولدنار) على التأثر الدوركايمي بالفكر الماركسي بإشارته إلى أن الأول كان واعيا بقوة لفكر الثاني، وكان ملاحظا لتطور الاشتراكية الأوربية، وترحك الصراع الذي أفضى إلى إضرابات ديكازيفيل سنة 1886 م وهي السنة نفسها التي أنهى فيها دوركايم (مسودة) كتاب (تقسيم العمل الاجتماعي) وقد كانت هذه الظروف – بجانب قيم ومصالح غير معلنة – داعية لندائه بأفكار التضامن خوفا من الشقاق والتفكك في المجتمع الفرنسي .
- أما زايتلن فيرى أن (ماركس) كان شبحا ظل يحاكيه ويناوره كانت أتى بعده وفي مقدمتهم (دوركايم .
- وجولدنر، فيذهب إلى أن دوركايم أراد أن يخالف(ماركس) لكنه لم يستطع إلا أن يلتقي معه، ولو على هوامش الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي. فهو يرى أن وجود المجتمع سابق لوجود الفرد، والوعي الجمعي سابق للوعي الفردي، والوجود الاجتماعي ليس متحددا لديه بمتغيرات مستقلة أكثر أهمية من غيرها، إنما اعتبر كل المجتمع وجودا اجتماعيا، بمعنى أنه وسع من نطاق الوجود الاجتماعي ولم يحدده بالعلاقات الإنتاجية، كنقطة بدء مهمة. ويدلل (جولدنار) على التأثر الدوركايمي بالفكر الماركسي بإشارته إلى أن الأول كان واعيا بقوة لفكر الثاني، وكان ملاحظا لتطور الاشتراكية الأوربية، وترحك الصراع الذي أفضى إلى إضرابات ديكازيفيل سنة 1886 م وهي السنة نفسها التي أنهى فيها دوركايم (مسودة) كتاب (تقسيم العمل الاجتماعي) وقد كانت هذه الظروف – بجانب قيم ومصالح غير معلنة – داعية لندائه بأفكار التضامن خوفا من الشقاق والتفكك في المجتمع الفرنسي .
خاتمة:
ويُعدّ دوركايم المؤسس الرئيسي لعلم الاجتماع
بالمعنى الأكاديمي والجامعي ، إذ بفضل جهوده وإصراره على أن الدراسات الاجتماعية
تختلف نوعياً عن الدراسات الفلسفية والنفسية ، وعمله على تأسيس كرسي أكاديمي لعلم
الاجتماع في الأكاديمية الفرنسية ، ظهر علم الاجتماع في شكل مؤسسي . ولقد سعى
دوركايم من البداية للتنظير للظاهرة الاجتماعية ، مؤكداً على أنها شيء ملموس
ومستقل عن ما حولها ومن ثم يمكن قياسها ، وهي تفرض تأثيرها وحضورها فيما حولها .
وفي كتابه "قواعد المنهج" سعى لإبراز "المنهجية العلمية" في
دراسة الظواهر الاجتماعية انطلاقاً من فهمه للفلسفة الوضعية . ولعل دراسته لظاهرة
"الانتحار" والتي نحى فيها منحى "اجتماعي" بعيداً عن الجوانب
النفسية ، إنما تشكل مثالاً نموذجياً لكيفية الدراسات التي سعى دوركايم للتأكيد
عليها . لكن تبقى دراسته "عن تقسيم العمل الاجتماعي" والتي نظر فيها
لفكرته عن تحولات المجتمع الحديث من مجتمع التكافل والعلاقات الحميمة إلى المجتمع
الصناعي الحديث التي تفرض ألواناً جديدة من المفاهيم والقيم الأخلاقية ، بعد
الإسهام الأبرز له . ويعد نقده لأطروحة ليفي بروهل حول ما عرف "بالأديان
والعقليات البدائية" في كتابه "الأشكال الدولية للممارسات الدينية"
من أهم الأطروحات الاجتماعية حول مسألة الدين والمجتمع في الفكر الاجتماعي الحديث
، ولا تزال أطروحات وأفكار دوركايم موضع عناية ، وإن كانت الدراسات الاجتماعية
تجاوزت العديد من نتائجه .
صحيح أن مفاهيم من أمثال "تقسيم العمل
الاجتماعي" و "التضامن الآلي والعضوي" و "العقل أو الضمير
الجمعي" و "الأنومي" وغيرها لا تزال رائجة ومؤثرة في الكتابات
الاجتماعية الحديثة والمعاصرة ، لكن المدرسـة ( المذهب العلمي ) التي صدرت عن
مفاهيم ونظريات دوركايم وتسمى " الوظيفية " موضع نقد واستهجان لدى
غالبية علماء الاجتماع اليوم ، وذلك لسعيها على التأكيد على أهميه استمرارية
الحالة القائمة وفرض نوع من التوازن بحجة ضرورة توحيد واستقرار المجتمع ، مما جعلها
تسعى إلى الوصف والغائية أكثر منها إلى الشرح والتفسير لما يجري في المجتمع .
البيبليوغرافيا :
1 – إميل دوركايم : تقسيم العمل الاجتماعي.
1989
2 - إميل
دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمد قاسم.
3 - محمد عاطف
غيث، علم الاجتماع، -ط – النظرية والمنهج والموضوع، دار القاهرة .
4 - عبد الباسط عبد
المعطى : اتجاهات نظرية في علم الاجتماع:سلسلة عالم المعرفة 1981
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق