إميل دوركايم والتأسيس السوسيولوجي للحداثة
زكريا الإبراهيمي: باحث وأكاديمي مغربي، حاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة
محمد الخامس، الرباط. أستاذ مساعد في علم الاجتماع بكلية الآداب، جامعة القاضي
عياض، مراكش. نشر عدة أبحاث ومؤلفات، منها: "الصحة والمجتمع: دراسة
سوسيولوجية للصحة والمرض بالمجتمع القروي المغربي" (2016).
(مؤسسة مؤمنون بلا حدود؛ أيلول 2016)
ملخص:
تحاول هذه
الدراسة الوقوف عند ملامح المجتمع الحديث كما رسمها دوركايم (1858ـ1917) [أوغست كونت: 1798ـ
1857] في مجموع أعماله الكبرى، وفي الكثير
من الدراسات التي قدمها هذا الأخير في فترات مختلفة من تطور حياته الفكرية والعلمية والإيديولوجية
كذلك، كما أنها تسعى إلى موقعة تصور دوركايم لنفس المجتمع بين مجموع التصورات التي
تشكلت حول الحداثة والمجتمعات الحديثة في نفس الفترة، وهو ما يمثل في نظرنا محاولة
لتجاوز القراءات الكلاسيكية لمتن الرجل، التي حصرته وحاصرته في كثير من الأحيان في
نظريته للمعرفة التي وإن كنا مقتنعين بأهميتها في اقتحام المتن الدوركايمي، إلا
أننا نعتبرها جزءا من المشروع العلمي والمجتمعي لدوركايم، وليس كل المشروع الذي
أنجزه هذا الأخير.
إن الفكرة
الأساسية لهذه الدراسة تقوم على أن المجتمع الحديث والحداثة من حيث هي أفكار
ومفاهيم وتصورات اجتماعية، توجد في كل المتن الدوركايمي حتى المعرفي منه، رغم أنها
تقدم نفسها في تقسيم العمل الاجتماعي والانتحار والأشكال الأولية للحياة الدينية
وأعمال دوركايم المتعددة حول التربية، بشكل جلي وواضح، لذلك أمكننا القول أن المجتمع الحديث
بالنسبة لدوركايم هو ذلك المجتمع الذي تتمايز بنياته وأفعال الأفراد ومعتقداتهم
فيه، إنه المجتمع الذي يقوم على تقسيم كثيف وكبير للعمل الاجتماعي
بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني، في السياسة والاقتصاد والثقافة في المعامل
والمصانع ومؤسسات الدولة، إنه المجتمع الذي تضعف فيه العلاقات الأولية مقابل
انتعاش كبير للعلاقات الثانوية واللاشخصانية بالأساس. إنه كذلك المجتمع
الذي تتحول فيه التربية إلى شأن عام وتستحل فيه المدرسة مكان الأسرة، وتصبح
فيه الدولة المسئول الأول عن عملية التنشئة الاجتماعية، إن المجتمع الحديث بالنسبة
لدوركايم هو المجتمع الذي تقوم فيه الأخلاق والمعاني الأخلاقية على قيم لائكية
بحيث تكون قادرة على استيعاب الجميع خاصة وأن كثافة المجتمع الحديث من حيث تنوع
الأعراق والديانات والثقافات يجعل من الدين والأسرة كمؤسسات تربوية مؤسسات فاشلة
بل مانعة للتربية. أما البعد الثالث في المجتمع الحديث كما تمثله دوركايم، فيظهر
في خروج الدين من المجال العمومي، بل وانسحابه من المجتمع بشكل عام، بسبب تقدم
المعرفة العلمية التي ستصبح السجل الأول لكل المعارف والمعاني التي يستعملها
الأفراد لفهم العالم وتحليله
على سبيل التقديم
إذا كانت أعمال دوركايم الإبيستمولوجية قد قتلت درساً ونقداً، وإذا كان بعض الباحثين في العلم الاجتماعي
لا يناقشون الإرث الدوركايمي، إلا من باب نظريته في المعرفة ومن زاوية تصوره للسوسيولوجيا كعلم،
والممارسة السوسيولوجية باعتبارها تقليداً علمياً تم تجاوزه أو يجب تجاوزه من حيث أطروحاته الأساسية،
فإن بعض أفكاره وتصوراته حول المجتمعات الحديثة وعدد من القضايا الاجتماعية الكبرى التي تحتل حيزاً
مهماً في النقاش العلمي والسياسي المعاصر مثل )الدين، التربية، التمايز الاجتماعي، الصراع، الاشتراكية،
الدولة، الأخلاق، الأسرة...الخ(، لم تنل حقها بالشكل الكافي من نفس الفعل، إلا من قبل فئة محدودة من
الباحثين في علم الاجتماع كرايمون آرون 1 ودانيلو مارتيشولي 2 وهابرماس 3 وآلان تورين 4 ورايمون
بودون 5...الخ. وهذا ما يعني بشكل أو بآخر أن الحديث المتداول عن تجاوز السوسيولوجيا المعاصرة،
للسوسيولوجيا الدوركايمية في صيغتها المعرفية 6 )الإثنوميتودولوجيا، الفينومينولوجيا الاجتماعية، الفردانية
المنهجية، الوظيفية النسقية، البنيوية التكوينية...الخ(، لا يمكن أن يحجب عنا راهنية التصور الدوركايمي
للمجتمع الحديث وللحداثة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، سواء من حيث بنية العلاقات والمؤسسات الاجتماعية
التي تؤسسها، أو من حيث مكانة الفرد والفعل الفردي داخلها، أو من حيث وجود الدين والعمل والتربية
والقيم والأسرة والدولة والقانون.. فيها كقيم حديثة أو كبنيات تختلف من حيث مساهمتها في تشكل المجتمع
الحديث ووجوده، أو حتى من حيث الأمراض والإختلالات الاجتماعية التي أنتجتها أو أحدثتها في هذا
الأخير وفي كل مؤسساته وبنياته الاجتماعية على اختلافها وتباين مستويات فعلها.
إن القراءة التي نقدم في هذه الدراسة للسوسيولوجيا الدوركايمية، تتأسس أولاً على تجاوز الأسئلة
الكلاسيكية التي وجهت إلى أعمال دوركايم والتي لم تتعد في أغلب الأحيان قواعد المنهج السوسيولوجي
والانتحار، حتى عند قراءتها لباقي المتن الدوركايمي خاصة المرتبط بالدين والتربية وتقسيم العمل الاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق