الجمعة، 22 مارس 2019

الله ومصير الإنسان؛ جواد علي. (عن "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. الفصل 64)




الله ومصير الإنسان
عن جواد علي: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام. الفصل الرابع والستون


مدخل

لا نعرف رأي الجاهليين في الخلق، وفي كيفية نشوء هذا الكون؛ إذ لم تصل إلينا نصوص جاهلية في هذا المعنى. ولا بد أن يكون لهم كما كان لغيرهم رأي في الخلق وفي نشوء الكون. فموضوع نشوء الكون وظهوره، من الموضوعات التي تثير رأي كل إنسان مهما كانت ثقافته وكان تفكيره.
وفي القرآن الكريم كلمات مثل "البارئ" و"المصور" و"الخلاق" و"خلقنا" و"خلقت" و"خلقناكم" و"خالق" وغيرها مما له علاقة بخلق الكون والإنسان وبقية المخلوقات، وفيه كيفية خلق الله للكون ومن فيه وكيفية خلق الإنسان ومن أي شيء خلق. ولكن هل كان يعرف جميع الجاهليين هذا المعنى المنزل في كلام الله، وهل نزلت هذه الآيات لإرشاد الناس إلى ذلك، أو أنها نزلت لتذكير القوم ولفت نظرهم إلى شيء يعلمونه ولكنهم كانوا ينسبونه لغير الله أو يتجاهلونه، إن كان ذلك على سبيل التذكير، فمعنى هذا أن لأهل الجاهلية رأيًا في كيفية الخلق. وإن كان ذلك على سبيل التعليم والإرشاد، فإنه يدل على أن من خوطب بتلك الآيات لم يكن له فقه وعلم بما خوطب به.
وفي القرآن الكريم آيات فيها خطاب للمشركين في بيان فساد رأيهم واعتقاداتهم، وفيها رد عليهم، منها نستطيع أن نحيط بعض الإحاطة بآرائهم في الوجود وفي البعث والحشر والحساب وغير ذلك من أمور تتعلق بدياناتهم. وهذه الآيات هي الشواهد الوحيدة التي نملكها من آراء في ذلك العهد أما ما جاء في روايات الأخباريين وفي كتب التفسير والحديث والملل والنحل، ففيه بعض الشيء عن آراء الجاهليين القريبين من الإسلام، ولا سيما عرب مكة ويثرب عن تلك الأمور.
ويفهم من القرآن الكريم أن من الجاهليين من كان يعتقد أن للعالم خالقًا خلق الكون وسواه، وأن منهم من كان يعتقد بوجود إله واحد فهم موحدون، وأن منهم من أقر بوجود إله واحد غير أنه تعذر الوصول إليه بغير وسطاء وشفعاء فاعتقد بالأرواح وبالجن وعبد الأصنام لتكون واسطة تقربه إلى الله1.
أما كيف خلق الله الأرض والسماوات وكيف نشأ الكون، فذلك ما لم يتعرض له القرآن الكريم حكاية على لسان الجاهليين. ولذلك لا نعرف رأي أولئك القوم الذين عاصروا الرسول وعاشوا قبيل الإسلام في كيفية ظهور الوجود وخلق الكون.
ويفهم من بعض الأخباريين أن من الجاهليين من كان يرى أن خالقًا خلق الأفلاك، غير أنها تحركت أعظم حركة فدارت عليه وأحرقته؛ لأنه لم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها، وأن منهم من كان يقول: "إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل. فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا إن العالم لم يزل ولا يزال ولا يتغير ولا يضمحل مع فعله. وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي فيه"2. وهذا كلام إن صح أنه من كلام الجاهليين ومن مقالاتهم، فإنه يدل على تعمق القوم في المقالات، وعلى أن لهم رأيًا وفلسفة في الدين، وأنهم لم يكونوا على الصورة التي يتخيلها معظمنا عنهم، وهي الصورة التي رسمها لهم أهل الأخبار في أثناء كلامهم العام عن الجاهليين.

1 بلوغ الأرب "2/ 194 وما بعدها".
2
بلوغ الأرب "2/ 220 وما بعدها".

الله الخالق:
ويظهر من القرآن الكريم، أن قريشًا كانوا يؤمنون بإله واحد خلق الكون، وهو رب السماوات والأرض. ففي سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وفي هذه السورة نفسها سؤال آخر موجه إلى المشركين {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2. وفي سورة لقمان سؤال آخر موجه إلى أولئك المشركين، وجواب صادر منهم، هو هذا الجواب نفسه: إقرار بوجود خالق واحد خلق السماوات والأرض: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3. وفي سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 4. وفي سورة الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} 5، وفي سورة الزخرف أيضًا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 6، وفي سورة العنكبوت {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 7. وهناك آيات أخرى على هذا النحو، فيها أسئلة موجهة إلى المشركين عن خلق السماوات والأرض، وأجوبة على ألسنتهم فيها اعتراف بأن خالقها وصانعها هو الله.
وفي القرآن الكريم أيضًا أن قريشًا كانت تعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر ويحيي الأرض بعد موتها8، وفيه أنهم كانوا يقسمون به9، وأنهم كانوا قد جعلوا له نصيبًا مما ذرأ من الحرث والأنعام10، وأنهم كانوا يقولون إن الله هو الذي شاء فجعلهم وآباءهم مشركين، وأنه لو لم يشأ لما أشركوا بعبادته أحدًا11، وأنهم كانوا يتضرعون إليه ويستغيثون به في الكوارث والملمات، وأنهم جعلوا له بناتًا وبنين وشركاء الجن1.

1 سورة العنكبوت، الرقم 29، الآية 61.
2
العنكبوت، الآية 63.
3
سورة لقمان، الرقم 31، الآية 25.
4
الزخرف، الرقم 43، الآية 9.
5
الزمر، الرقم 39، الآية 38.
6
الزخرف، الرقم 43، الآية 87.
7
العنكبوت، الرقم 29، الآية 63.
8
العنكبوت، الآية 63.
9
الأنعام، الآية 109، النحل، الآية 38.
10
الأنعام، الآية 136.
11
الأنعام، الآية 148.

فقريش إذن وفق هذه الآيات قوم، كانوا يؤمنون بإله عزيز عليهم، ومن آيات ذلك أنهم جعلوا له نصيبًا في أموالهم، مع أن المال من أعز الأشياء على الإنسان، لا سيما بالنسبة لتلك الأيام.
وفي تلبية الجاهليين المنصوص عليها في كتب أهل الأخبار اعتراف صريح واضح بوجود إله. كانوا يلبون بقولهم: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك. تملكه وما ملك، يعنون بالشريك الصنم، يريدون أن الصنم وما يملكه ويختص به من الآلات التي تكون عنده وحوله والنذور التي كانوا يتقربون بها إليه كلها ملك لله عز وجل"2 فذلك معنى قولهم: تملكه وما ملك. فهم يعترفون ويقرون بوجود الله، لكنهم يتقربون إليه بالأصنام. وهذا هو الشرك.
وفي دعاء العرب اعتراف بوجود "الله"، فقولهم: "رماه الله بما يقبض عصبه"، و"قمقم الله عصبه"، و"لا ترك الله له هاربًا ولا قاربًا"، و"شتت الله شعبه"، و"مسح الله فاه"، و"رماه الله بالذبحة"، و"رماه الله بالطسأة"، و"سقاه الله الذيغان"، و"جعل الله رزقه فوت فمه"، و"رماه في نيطه"، و"قطع الله به السبب"، و"قطع الله لهجته"، و"مد الله أثره"، و"جعل الله عليها راكبًا قليل الحداجة"، و"لا أهدى الله له عافية"، و"أثل الله ثلله"، و"حته الله حت البرمة"، و"رماه الله بالطلاطلة"، و"رماه الله بالقصمل"، و"ألزق الله به الحوبة"، و"لحاه الله كما يُلحى العود"، و"اقتثمه الله إليه"، و"ابتاضه الله"، إلى آخر ذلك من دعاء يدل على وجود إيمان بخالق هو الله3.
وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين اعتقاد بوجود الله، واتقاء منه، وتقرب إليه باحترام الجوار وقرى الضيف. هذا عمرو بن شأس يقول في شعره:

1 الأنعام، الآية 100.
2
اللسان "10/ 450"، "شرك".
3
راجع بقيته في ذيل الأمالي والنوادر "ص57 وما بعدها"، "عود إلى بحث دعاء العرب".

وَلَولا اِتقاءُ اللَهِ وَالعَهدُ قَد رَأى ... مَنِيَّتَهُ مِنّي أَبوكِ اللَيالِيا1
فلولا اتقاء شأس الله، لفتك بخصمه، وجعله من الهالكين. وفي بعضه اعتراف بأن هذه الأرض الواسعة هي "بلاد الله"، أينما حللت فيها فهي أرضه وبلاده2. وهذه نظرة مهمة جدًّا عن رأي الجاهليين في الله وفي الأرض، إن صح أن هذا الشعر الوارد فيه حقًّا من شعر أهل الجاهلية.
و"الله" كما جاء في شعر زهير بن أبي سُلمى، عالم بكل شيء، عارف بالخفايا وبالأسرار، وبما ظهر من الأعمال وما بطن1.
فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم ... لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَم3
وهو عدو للأشقياء شديد عليهم، لا يرحم ظالمًا، وأمره بُلْغٌ به تشقى به الأشقياء4 وهو يثيب على الإحسان، ويجزي المحسن على جميل إحسانه5. وهو الذي يعصم من السيئات والعثرات6. وهو مقر بوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له7.

1 الأغاني "10/ 62"، نسب عمرو بن شأس وأخباره في هذا الشعر وغيره.
بدا لي أن الله حق فزادني ... إلى الحق تقوى الله ما قد بدا ليا
شرح ديوان زهير "287".
2
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ديوان عروة "51".
3
شرح ديوان زهير "18".
4
فهداهم بالأسودين وأمر ... الله بلغ يشقى به الأشقياء
اللسان "10/ 302"، "بلغ".
فهداهم بالأسودين وأمر ... الله بلغ تشقى به الاشقياء
تاج العروس "6/ 4"، "بلغ".
5
رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاد الذي يبلو
شرح ديوان زهير "109".
6
ومن ضريبته التقوى ويعصمه ... من سيئ العثرات الله والمرحم
شرح ديوان زهير "ص162".
7
فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيودع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
شرح ديوان زهير، لثعلب "ص12" بلوغ الأرب "2/ 277 وما بعدها" شعراء النصرانية "القسم الرابع ص518"، جمهرة أشعار العرب "71".
والله "كريم" لا يكدر نعمة، إذا دُعي أجاب. وهذا هو رأي الأعشى في الرب، إذ يقول:
رَبّي كَريمٌ لا يُكَدِّرُ نِعمَةً ... وَإِذا يُناشَدُ بِالمَهارِقِ أَنشَدا1
وقد ورد اسم الجلالة في أشعار كثير من الشعراء الجاهليين: ورد في شعر امرئ القيس وغيره، فامرؤ القيس يقول: "من الله" و"لله"2، و"تالله"3، و"قبح الله"4، و"والله"5، و"يمين الله" و"يمين الإله"6، و"الإله" هي "الله"، و"الحمد لله"7. ونرى العرب عامة تستعمل في كلامها: "لله دره"8، و"لا يبعد الله"9، و"لحى الله"10،

1 ديوان الأعشى، قصيدة 34 "ص151"، "تحقيق كاير".
2
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل
لله زبدان أمسى قرقرا جلدا ... وكان من جندك أصم منضودا
شرح ديوان امرئ القيس للسندوبي "ص63، 152"، وسيكون رمزه: سندوبي.
3
تالله قد علمت قيس إذا قذفت ... ريح الشتاء بيوت الحي بالعنن
شرح ديوان زهير "121".
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا ... تا لله لا يذهب شيخي باطلا
سندوبي "154".
4
ألا قبح الله البراجم كلها ... وجدع يربوعا وعفر دارها
سندوبي "180".
5
فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبر بميثاق وأوفى بجيران
والله لا يذهب شيخي باطلا ... حتى أبير مالكًا وكاهنا
سندوبي "15، 189"، شرح ديوان زهير "24".
6
كلا يمين الإله يجمعنا ... شيء وأخوالنا بنو جشما
سندوبي "181".
7
أري إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالًا إذا ما استقبلتها صعودها
سندوبي "64".
8
كم شامت بي إن هلكـ ... ـت وقائل: لله دره!
ديوان لبيد "ص2"، "تحقيق كارل بروكلمن".
9
وقولي ألا لا يعبد الله أربدا ... وهدى به صدع الفؤاد المفجعا
ديوان لبيد "ص6".
10
لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفا كل مجزر
ولله صعلوك صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور
ديوان عروة بن الورد "26، 53".

و"جزى الله"1، و"عمر الله"2، وأمثال ذلك مما يرد في أشعار الشعراء الجاهليين، يخرجنا تدوينه وحصره في هذا المكان عن حدود الموضوع.
وقد جاءت لفظة الجلالة في أيمان أخرى، في مثل: "لعمر الله"، و"ها لعمر الله" كالذي ورد في شعر زهير:
تَعَلَّمَن ها لَعَمرُ اللَهِ ذا قَسَمًا ... فَاِقدِر بِذَرعِكَ وَاِنظُر أَينَ تَنسَلِكُ3
وورد "ها الله" و"والله" و"الله" و"نعم الله" و"أي والله لأفعلن"، و"ايم الله" و"ايمن الله" و"يعلم الله" و"علم الله" وأمثال ذلك4.
ومن أيمانهم الدالة على الاعتقاد بوجود خالق، قولهم: "لا وبارئ الخلق"، و"لا والذي يراني من حيث ما نظر" و"لا والذي نادى الحجيج له"، و"لا والذي يراني ولا أراه"، و"لا والذي كل الشعوب تدينه"، و"حرام الله لا آتيك"، و"يمين الله لا آتيك"، و"لا والذي جلد الإبل جلودها"، و"والذي وجهي زمم بيته"، و"لا والذي هو أقرب إليَّ من حبل الوريد"، و"لا ومقطع القطر"، و"لا وفالق الإصباح"، و" لا ومهب الرياح" و"لا ومنشر الأرواح"5، على غير ذلك من أيمان حلفوا بها، تدل على إيمان وعقيدة بوجود خالق، فحلفوا به.
ونجد في معلقة امرئ القيس قسمًا بالله حكي على لسان صاحبة صاحب المعلقة:
فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ ... وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي6
وترى في بيت لامرئ القيس وهو يذكر إقدامه على الشرب:
فَاليَومَ أُسقى غَيرَ مُستَحقِبٍ ... إِثمًا مِنَ اللَهِ وَلا واغِلِ7

1
جزى الله خيرًا كما ذكر اسمه ... أبا مالك إن ذلك الحي اصعدوا
ديوان عروة "ص50".
2
قعيدك عمر الله، هل تعلمينني ... كريمًا إذا اسوَدَّ الأنامل أزهرا
ديوان عروة بن الورد "22"، Reste, s. 224
3
السنن الكبرى "10/ 26 وما بعدها"، المخصص "13/ 113".
4
المخصص "13/ 114 وما بعدها"
5
ذيل الأمالي "ص50 وما بعدها".
6
المعلقات العشر وأخبار شعرائها "62".
7
شعراء النصرانية "19".
فالرجل مؤمن بالله، وقد وفى بما عاهد الله عليه، وهو لا يخشى بعد ذلك إثمًا إذا شرب؛ لأنه وفى بنذره.
ونراه يذكر الله أيضًا في هذا البيت:
لله زبدان أمسى قرقرًا جلدًا ... وكان من جندل أصم منضودا1
ثم نراه يشكر الله بجملة: "والحمد لله" في هذا البيت:
أرى إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالًا إذا ما استقبلتها صعودها
ونراه يحث الناس على التمسك بحبل الله، فبالله يكون النجاح، ويحث الناس على عمل البر، والبر خير حقيبة الرجل:
وَاللَه أَنجَحُ ما طَلَبتُ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ
ونفهم من هذه الأبيات ومن أبيات أخرى، أن امرأ القيس رجل مؤمن يعتقد بالله الواحد، مؤمن بالله الواحد، مؤمن بالثواب وبالعقاب، وأنه كان يخاف الله ويخشى الإثم والفسوق، ولا أدرى أينطبق هذا الذي نقوله على امرئ القيس الذي يتحدث عنه أهل الأخبار ويصفونه بأنه رجل عابس ميال إلى اللهو والشهوات رمى صنمه بسهم وأنبه لما جاء الجواب بخلاف ما كان يرغب فيه ويشتهيه. ثم لا أدرى إذا كان أسلوب هذا الشعر من أسلوب الشعر الجاهلي وطرازه؟ وإذا كان هذا الشعر صحيحًا، فلم أدخل رواته شاعره في الجاهليين الوثنيين ولم يدخلوه في عداد المؤمنين بالله من الأحناف؟
وإذا اعتقدنا بصحة الأبيات المنسوبة إلى عبيد بن الأبرص:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب
وقلنا مع القائلين إنها من شعر ذلك الشاعر حقًّا، وجب عده إذن في جملة

1 شعراء النصرانية "40".
الموحدين المؤمنين المسلمين، وإن عاش قبل الإسلام. فرجل يقول هذا القول، لا يمكن إلا أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالله الواحد الأحد علام الغيوب والعارف بما في القلوب، ومن الممهدين للتوحيد بين العرب قبل الإسلام.
وقد أهمل بعض رواة هذه المعلقة البيت الآتي:
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب
وكأنهم فطنوا إلى أن من غير المعقول نسبته إلى رجل وثني، مهما كان رأيه في الأوثان والتوحيد، لا يمكن أن يستعمل هذه الألفاظ التي لم يستعملها العرب بهذا الشكل إلا في الإسلام.
وإلى عبيد نفسه ينسب الأخباريون قول هذا البيت:
حلفت بالله إن الله ذو نعم ... لمن يشاء ذو عفو وتصفاح
ورجل يقول هذه الأبيات وأبياتًا أخرى من لونها، لا يمكن إلا أن يكون موحدًا مؤمنًا، من فصيلة المؤمنين بالله من الأحناف. وقد أراح "شيخو" نفسه وأراح الناس حين ذهب إلى أن عبيدًا وأمثاله من الشعراء الجاهليين كانوا نصارى وأن هذا التوحيد هو توحيد نصراني محض، وقف عليه عبيد في زيارته للحيرة مهد النصرانية في ذلك العهد، فاعتنقه، فهو على رأيه إذن شاعر نصراني، وشعره شعر نصراني لا يرد ولا يرفض.
ونجد "طفيل بن عوف" الغنوي يقسم بـ"الإله" في شعره. غير أن هناك رواية تضع "رضى" موضع "الإله" فيكون القسم به، ورضى اسم صنم كان لطيء1. وقد ذكر "الله"في مواضع أخرى من شعره، وقال إنه هو الذي يصلح الأمور، ويسد العجز والثُغر التي ليس في وسع الإنسان سدها2.

1
"
فقال بصير يستبين رعالها ... هم والإله من تخافين، فاذهبي
ويُروى، ولعلها رواية أبي عبيدة:
وقال بصير قد أبان رعالها ... فهي ورضى من تخافين، فاذهبي
ورضى اسم صنم كان لطيء، ديوان طفيل بن عوف الغنوي "تحقيق ف. كرنكو"
"
لندن 1927"، "ص12".
2
لعمري لقد خلى ابن جيدع ثلمة ... فمن أين إن لم يرأب الله ترأب
ديوانه "ص19".
وإنه يجزي الناس على أعمالهم1
وفي معلقة "الحارث بن حلزة" اليشكري: "أمر الله بلغ تشقى به الأشقياء"2، وأن الله عالم بالأمور3.
ونجد "المتلمس"، يُقسم بالله في شعره، ويذكر الله في مثل جملة "أبي الله"4 للتعبير عن مشيئة الله وإرادته، وجملة "لله دري" في التعجب5 وجملة "تقوى الله"6، و"عاداك الله"7 وغيرها مما يدل على أنه كان يعتقد أن الله يعادي الأعداء ويحب المحبين.
ولكننا نجده في مواضع أخرى يقسم باللات وبالأنصاب، والمقصود بالأنصاب الأوثان مما يشعر أنه كان يؤمن بها، فكيف نوفق بين اعتقاده بالله واعتقاده باللات.

1
جزى الله عوفًا من موالي جنابة ... ونكراء خيرًا كل جاد مودع
ديوانه "ص50".
جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
ديوانه "ص57".
2
فهداهم بالأسودين، وأمر الله ... بلغ تشقى به الأشقياء
شرح القصائد العشر "468"، "البيت رقم 62" من المعلقة.
3
وفعلنا بهم كما علم الله ... وما أن للخائنين دماء
البيت "رقم 75" من المعلقة، "ص475" من شرح القصائد العشر للتبريزي "محمد محيي الدين عبد الحميد".
4
يا آل بكر ألا لله احكموا ... طال الله الثواء وثوب العجز ملبوس
ديوان المتلمس "ص169" "طبعة فولرس"، جمهرة أشعار العرب "ص44، 206"، شعراء النصرانية" 332".
وقال:
وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله ألا أن أكون لها ابنا
شعراء النصرانية "338".
وقال:
أطردتني حذر الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا نثل
وذلك في رواية. وفي الروايات الشائعة "واللات" بدلًا من والله، ديوان المتلمس "171".
5
تفرق أهلي من مقيم وظاعن ... فلله دري أي أهلي أتبع
ديوان المتلمس "ص187".
6
وأعلم علم حق غير ظن ... وتقوى الله من خير العقاد
ديوان المتلمس "ص195"، شعراء النصرانية "343".
7
لا خاب من نفعك من رجالها ... بلا وعادى الله من عاداكا
ديوان المتلمس "ص206"، شعراء النصرانية "348".
والأنصاب؟ وهل نعد هذا الشعر صادرًا من شاعر واحد؟ نعم، يجوز أن يكون قاله هو. قاله لأنه كان يعتقد بوجود إله، فهو يؤمن به ويقر بوجوده، غير أن قسمه باللات والأنصاب، هو من باب عقيدة الجاهليين المؤمنين بوجود إله، ولكنهم كانوا يتقربون إليه بالأصنام والأوثان والأنصاب. ويتوقف هذا التفسير بالطبع على إثبات أن هذا الشعر له حقًّا، وليس مفتعلًا، ولا مما أدخل الرواة عليه تغييرًا أو تبديلًا.
ونجد في شعر النابغة الجعدي، أبو ليلى عبد الله بن قيس، الشاعر المخضرم المتوفى سنة "65" للهجرة، قصيدة مطلعها:
والحمدُ للهِ لا شريك له ... من لَم يَقُلها فنفسه ظلما
يلي هذا المطلع قصة نوح والسفينة، وهي سفينة مصنوعة من خشب الجوز والقار. وفي هذه القصيدة اعتراف بالتوحيد، وبوجود إله واحد لا شريك له، لا يحمد إلا هو، وهو شعر لا يمكن أن يكون إلا من شعر شاعر مسلم، إن صح أنه من شعره، فيجب أن يكون مما نظمه في الإسلام.
وينسب إلى "لبيد" اعتقاده أن الله يبسط الخير والشر على عباده، وأنه منتقم ممن يخالفه، معاقب له، كما عاقب "إرما" و"تبعا"، وقوم "لقمان بن عاد"، و"أبرهة" وذلك في أبيات أولها:
مَن يَبسُطِ اللَهُ عَلَيهِ إِصبَعا ... بِالخَيرِ وَالشَرِّ بِأَيٍّ أولِعا
وهي رجز، يرى بعض العلماء أنها ليس من رجزه1.
ونجد معود الحكماء، وهو معاوية بن مالك بن جعفر، يذكر الله ويحمده، فيقول: "بحمد الله"، ويقول "عامر": أردت لكيما يعلم الله أنني"، ويقول: "خداش بن زهير": "وذكرته بالله بيني وبينه"2.

1 ديوان لبيد "337 وما بعدها".
2
شرح ديوان لبيد، "ص21"، "المقدمة"، "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، قيل له معود الحكماء لقوله:
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الأشياع نابا
تاج العروس "2/ 440"، "عود".

وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة "باسمك اللهم". ساروا في ذلك على هدى "أمية بن أبي الصلت" مبتدعها وموجدها، كما في رواية تنسب إلى ابن الكلبي. وذكر بعض آخر أن قريشًا كانت تستعمل هذه الجملة منذ عهد قبل الإسلام، وأنها بقيت تستعملها إلى ظهور الإسلام. وقد استعملها الرسول، ثم تركها، وذلك بنزول الوحي باستعمال "بسم الله الرحمن الرحيم"1. ونحن لا يهمنا هنا اسم مبتدع هذه الجملة، وإنما الذي يهمنا منها ما فيها من عبارة تدل أيضًا على التوحيد. فإذا صح أن الجاهليين كانوا يستعملون هذه الجملة، فإن استعمالها هذا يدل على اعتقاد القوم بإله واحد، أي بعقيدة التوحيد، ولا يعقل بالطبع استعمال شخص لهذه الجملة في رسائله، يفتتح بها كتبه، لو لم يكن من أصحاب عقيدة التوحيد، وقد جاء في بعض الأخبار أن هذا الاستعمال متأخر، وأنه حدث بعد أن تغيرت عوائد القوم في افتتاح كتبهم، فقد كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى، فرفعوا تلك الافتتاحيات القديمة واستبدلوا بها هذه الجملة الجديدة، جملة "باسمك اللهم". وعلى كل، فإن جملة "باسمك اللهم" وأمثالها إن صح أنها من ذلك العهد حقًّا فإنها تدل على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين. وإلا، فكيف يتصور استعمال هذه الجملة الموحدة مع وجود الشرك لو لم يكن قد حدث تطور فكري كبير في هذا العهد حملهم على استعمال هذه الجملة وأمثالها من الجمل والألفاظ الدالة على التوحيد2؟
وقد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع، ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي، فذهبوا في ذلك مذاهب. منهم من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقًّا، ومنهم من أنكر ذلك، وأظهر أنه شعر منحول مصنوع، صنع على الجاهليين فيما بعد، ومنهم من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا أسماء الأصنام وأحلوا اسم الله محلها.

1 بلوغ الأرب "3/ 375، تاج العروس "9/ 411"، "لاه".
2 "
دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم"، الطبري "2/ 634". "صلح الحديبية

وبينما نجد أهل الأخبار ينسبون إلى هؤلاء الشعراء وأمثالهم الاعتقاد بالله، نجدهم ينسبون إليهم، الحلف بالأصنام، والاعتقاد بها. فقد نسبوا إلى "خداش بن زهير" شعرًا آمن به بالله، ثم نسبوا له قوله:
وَبِالمَروَةِ البَيضاءِ يَومَ تَبالَةٍ ... وَمَحبَسَةِ النُعمانِ حَيثُ تَنَصَّرا
والمروة البيضاء هي ذو الخلصة، ثم هو يقسم بمحبسة النعمان، وهو نصراني1. أفلا يدل هذا على وجود تنافر أو تناقض في عقيدة أمثال هؤلاء الشعراء؟ والذي لا وقوف له على طبائع أهل الجاهلية، يرى هذا الرأي، أو يذهب إلى أن هذا الشعر مصنوع مفتعل. أما الذي يعرف عادة العرب في القسم، فلا يستغرب منه ولا يرى فيه تنافرًا، فقد كان الجاهليون يقسمون بكل شيء، يقسمون بالشجر وبالحجر وبالكواكب، وبالليل وبالنهار، وبالأصنام، وبعمر الإنسان وبحباتهم وبلحى الرجال، وبالأصنام وبالمعابد، وبالله، وبالخبر والملح، لا يرون في ذلك بأسًا ولا تناقضًا مع عقيدتهم. هذا "عدي بن زيد" العبادي، يقسم بمكة، وهو نصراني، لا يرى للكعبة في دينه حرمة ولا مكانة. أقسم بها على قاعدة العرب في القسم، وقد أقسم بأمور أخرى من أمور أهل الجاهلية الوثنيين، ولم يذكر أحد أنه بذل دينه، وصار وثنيًّا. وكذلك الأمر مع غيره من شعراء نصارى ويهود وعبَّاد أصنام، أقسموا برهبان النصارى وبأمور نصرانية، مع أنهم كانوا عبَّاد أوثان.
ومن القائلين بالرأي الأخير، "نولدكه" فقد ذهب إلى أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم "الله"2. وقد ذهب أيضًا إلى أن رواة الشعر في الإسلام حذفوا من شعر الجاهليين ما لم يتفق مع عقيدتهم، وما وردت فيه أسماء الأصنام. ومن جملة ما استدل به على أثر التغيير والتحريف في الشعر الجاهلي ورود كلمة "الرحمن" في شعر شاعر جاهلي من هذيل، زعم أن ورود هذه الكلمة في هذا الشعر دليل كاف لإثبات أثر التلاعب فيه؛

1 شرح ديوان لبيد "21".
2 Noldeke, Beltrage s, IX, ff,

لأن هذه اللفظة إسلامية استحدثت في الإسلام، ولا يمكن أن ترد في شعر شاعر جاهلي1. وقد فات "نولدكه" صاحب هذا الرأي أن الكلمة بهذا المعنى كلمة جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي نصوص جاهلية أخرى. وأن من جملة من استعملها "أبرهة" الحبشي في نصه الشهير المعروف بنص سد مأرب، وأن قومًا من الجاهليين تعبدوا للرحمن، على نحو ما تحدثت عن هذه العبادة في موضع آخر من هذا الكتاب.
وادعاء أن لفظة "الله" لم تكن موجودة في الأصل، وإنما أقحمت فيه من بعد، وذلك بإزالة رواة الشعر لأسماء الأصنام التي ذكرها أولئك الشعراء، وإحلالهم اسم الله في محلها، حتى ظهر ذلك الشعر وكأنه شعر شعراء موحدين يعتقدون بوجود إله واحد2. هو تعليل فيه شيء من التكلف، فليس كل شعر فيه اسم الأصنام بصالح لقبول الجلالة، فقد لا يستقيم من حيث الوزن أو المعنى بإدخال تلك اللفظة في موضع اسم الصنم. ثم إن من الشعر الجاهلي المروي في الإسلام ما بقي محافظًا على اسم الصنم دون أن يمس ذلك الاسم بسوء. ولو كان من عادة الرواة حذف اسم الأصنام عامة لما تركوا لها بقية في الشعر. ثم ما هي الفائدة التي يجنيها الرواة من طمس أسماء الأصنام، وهم يعلمون أن أهل الجاهلية كانوا وثنيين، يدينون بالأصنام، وكانوا يقسمون بها، وقد رووا أمثلة من ذلك القسم!
أما "ولهوزن" فيرى أن عدم ورود أسماء الأصنام في الشعر الجاهلي إلا في النادر وإلا في حالة القسم أو في أثناء الإشارة إلى صنم. أو موضع عبادة، ليس بسبب تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام. وإنما سببه هو أدب الجاهليين وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر أسماء الآلهة الخاصة، وذلك على سبيل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم بلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلهًا معينًا، وإنما تعني ما تعنيه كلمة رب وإله. ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك من حالات3.

1 Noldeke, Beltrage, S. X.
2 Werner Caskel, Das Schlksal im der Altarabische Poesie, Leipzig, 1926, S. 8, Goldziher, Abhandlungen, II, S. IX-XXVI, Ahiwardt, Bemerkungen uber die Achtheit der Aletn Arabischen Gedischte.
3 Reste. S. 217. ff.

ويرى "ولهوزن" أن لفظة "الله" كانت بهذا المعنى في الأصل. كانت تعني إلهًا على وجه التعميم، دون التخصيص، أي أنها لا تشير إلى إله معين.
استعملتها كل القبائل بهذا المعنى، فهي صفة تشير إلى الألوهية المجردة، وإن كان أفراد كل قبيلة يقصدون بها صنمهم الخاص بهم. استعاضوا بها عن ذكر اسم الصنم. وإن استعمالها جملًا مثل: "حاشا لله" و"لله درك" و"لاها الله"، و"تا لله"، و"ايم الله"، و"لحا الله"، و"جزى الله"، و"جعلني الله فداك"، و"لك الله"، و"أرض الله"، وأمثالها، هو من هذا القبيل، الله فيها بمعنى الرب والإله. ولما كانت أداة التعريف تفيد التخصيص، فدخولها في اسم الجلالة أفاد التخصيص والعلمية. وهذا ما حدث؛ إذ فقدت الكلمة معناها العام، واتجهت نحو التخصص حتى صارت بهذا المعنى الذي صارت عليه في الإسلام1.
وقد ذهب مستشرقون آخرون إلى صحة ورود لفظة الجلالة في الشعر الجاهلي. كما ذهبوا إلى أن ورودها في القرآن الكريم أو في الحديث، لا يمنع من ورودها في الشعر الجاهلي، ولا يكون سببًا للطعن في ذلك الشعر؛ لأن من الجاهليين من كان يؤمن بوجود إله هو فوق الآلهة عندهم، فورود اسمه في شعرهم، ليس بأمر غريب.
وورود اسم الجلالة في أشعار الجاهليين يحملنا على البحث في أصله: هل هو إسلامي محدث: أو هو اسم جاهلي قديم؟ وبحث مثل هذا يجب أن يستند إلى النصوص. غير أننا ويا للأسف لا نملك نصًّا جاهليًّا يمكن أن يفيدنا في هذا الباب، فكل النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا خُرس لم تنطق بشيء عن اسم الجلالة، فليس أمامنا إلا اللجوء إلى الطريقة المألوفة في مثل هذه الأحوال، وهي الرجوع إلى آراء علماء اللغة، وإلى المقابلة بين العربية واللهجات السامية الأخرى. أما آراء علماء اللغة، فإنها مثل آرائهم الأخرى في أصول الكلمات الصعبة التي على شاكلتها، كلها حدس وتخمين. ولا يمكن أن يُستنبط منها شيء تأريخين يرجعك إلى أول عهد ظهرت فيه هذه اللفظة، وإلى المراد منها. وأما المستشرقون، فمنهم من يرى أن اللفظة عربية أصيلة، ومنهم من يرى أنها من "ألاها" Alaha

1.Reste, s 218.
ومعناها "الإله" بلغة "بني إرم". أما الذين قالوا بعربيتها، فيرون أنها من "اللات"، اسم الصنم المعروف، تحرف وتولد منه هذا الاسم1.
واللفظة "الله" من أصل "إلاه"، أي "رب"، و"بعل"، وهي من الألفاظ السامية القديمة. ويقال "إلهة" "إلاهة" للأنثى. لأن من الجاهليين من تعبد للآلهة الأناث. وتقابل "هـ - إله" "ها إلاه" "هـ إلاه" في النصوص الثمودية، أي "الله"2. كما ترد هذه اللفظة في نصوص عربية أخرى مثل النصوص اللحيانية.
ويلاحظ أن لفظة "الله" هي من التسميات التي وردت في النصوص الشمالية، ويدل ورودها في هذه النصوص على تأثر العرب الشماليين بمن اختلطوا بهم من الشعوب التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، وأخذهم عبادة هذا الإله منهم. ولم تكن هذه اللفظة اسم علم في الأصل، ثم تخصصت على ما يظهر من النصوص المتأخرة، فصارت تدل على إله معين ثم على إله واحد أحد هو إله الكون في الإسلام.
ويذكر علماء اللغة أن "لاه" الله الخلق يلوههم خلقهم، واللآهة الحية، منها سمي الصنم اللات بها، وجوز "سيبويه" اشتقاق اسم الجلالة منها. قال الأعشى:
كَدعوةٍ مِن أَبي كبارٍ ... يَسمَعُها لاهُهُ الكُبارُ
ولاه: علا وارتفع. وسميت الشمس إلاهة لارتفاعها في السماء3. وذكروا أن "أل" اسم الله، وكل اسم آخره أل أو إيل، فمضاف إلى الله، ومنه جبرائيل وميكائيل 4، فهو "إيل" إذن، إله جميع الساميين القديم.
وتعداد المواضع التي وردت فيها لفظة الجلالة أو لفظة إله والإله في الشعر الجاهلي، يخرجنا عن صلب الموضوع، ويجعل البحث جافًّا مملًّا. غير أن في استطاعتنا أن نقول إنها وردت في أكثر ذلك الشعر إن لم نقل فيه كله. وإن ورودها فيه يشير إلى اعتقاد أصحاب ذلك الشعر بإله واحد قهار هو إله العالمين.
غير أن هذا القول يتوقف بالطبع على إثبات أن ذلك الشعر هو شعر جاهلي حقًّا، وأن من نسب إليهم قالوه من غير شك، وأنه لم يوضع على ألسنة أولئك الجاهليين.

1 Ency. Religi, I, p. 661, Ency, I. p. 302.
2 Rese, S. 209, Mission, II, p. 557, 559, 564, Grohmann, s. 87. ff.
3
تاج العروس "9/ 410"، "لاه"، "9/ 374"، "إله".
4
تاج العروس "7/ 211 وما بعدها". "أل".

الاعتقاد بإله واحد:
والذي يفهم -وذلك كما سبق أن قلت- من القرآن الكريم ومن الحديث أن قريشًا ومن كان على اتصال بهم، أو غيرهم من قبائل أخرى، لم يكونوا ينكرون عبادة الله، ولم يكونوا يجحدون الله، بل كانوا يقرون بوجوده، ويدينون له، وإنما الذي أنكره الإسلام عليهم وحاربهم من أجله وسفه أحلامهم عليه، هو تقربهم على الأصنام والأوثان، وتقديسهم لها تقديسًا جعلها في حكم الشركاء والشفعاء ومرتبة الألوهية. والإسلام لا يعترف بهذه الأشياء، وهو ينكرها، ومن هنا حاربته قريش ومن كان على هذه العقيدة من حلفائها ومن القبائل التي كانت ترى رأيها. فهنا كان موطن الخلاف، لا عقيدة الإيمان بالله1.
وإذا أخذنا بهذا الرأي، رأي اعتقاد الجاهليين أو بعضهم بإله واحد، نكون بذلك قد حللنا عقدة الازدواجية، أي العقيدة الثنائية عند الجاهليين ووجودها في شعرهم، فلا نجد عندئذ غرابة إذا وجدنا شاعرًا يذكر الله في شعره ويحلف به، ثم نجده يذكر الأصنام في الشعر نفسه، ويقسم بها قسمه بالله.
ويكاد يكون الإجماع على ما تقدم. قال ابن قيم الجوزية في معرض مقارنته بين آراء المجوس وعبدة الأوثان من العرب: "بل كفر المجوس أغلظ. وعبَّاد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يقرون بصانعَين للعالم أحدهما خالق للخير والآخر للشر كما تقول المجوس"2 فالوثنية على هذا الرأي ليست نكرانًا لوجود إله، وإنما هي اعتقاد بوجوده، واعتقاد بفائدة التقرب إليه، بتقربهم إلى الأصنام والأوثان، أي الشفعاء، بما في ذلك المبالغة في تقديس الأشخاص والقبور.

1 Reste, S. 217, Lyall, Ancient Arabian Poetry, p. XXIX
2
زاد المعاد "3/ 224"، "فصل في حكمه في الجزية ومقدارها وممن تقبل".

ولا نجد للعرب إلهًا قوميًّا خاصًّا بهم كالذي نجده عند العبرانيين من تعلقهم بـ"يهوه"، وعدهم إياه إلهًا خاصًّا بإسرائيل. فقد صار هذا الإله إله جميع قبائل إسرائيل ويهوذا. أما العرب فقد كانوا يعبدون جملة آلهة: كل قبيلة لها إله خاص بها وآلهة أخرى، ولم يكن لها إله واحد له اسم واحد يعبده جميع العرب. والظاهر أن القبائل الساكنة في الحجاز ونجد العراق والشأم، صارت قبيل الإسلام تتنكر لأصنامها العديدة، وتأخذ بالتوحيد وبالاعتقاد بإله واحد هو الله، وهو الذي نجده في هذا الشعر الجاهلي الذي هو حاصل تغريد شعراء قبائل عديدة مما يدل على أن قبائل أولئك الشعراء دانوا بالاعتقاد بوجود ذلك الإله فوق الأصنام والأوثان، وقد توجت هذه العقيدة بتاج النصر في الإسلام. غير أن "الله" في الإسلام يختلف عن الله الجاهليين. فالله هو إله العالمين، إله جميع البشر على اختلافهم. ليس له شريك من أصنام وأوثان.
أما الله الجاهليين، فهو رب الأرباب، وإله الآلهة، يسمو فوق آلهة القبائل أي آلهة القبيلة الواحدة. ولهذا ذكر في شعر شعراء مختلف القبائل؛ لأنه لا يختص بقبيلة واحدة.
ويقال لما يعبد من دون الله: الأنداد. وفي كتاب النبي لأكيدر: وخلع الأنداد والأصنام. والند: مثل الشيء والنظير. وفي التنزيل: واتخذوا من دون الله أندادًا، أي ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله1.
والله إله ذكر. وكيف لا يتصور الإنسان إلهه ذكرًا، والذكر هو قوي مقتدر بخلاف الأنثى! وحيث إن الله هو قوي ومصدر القوة والخلق، فلا بد وأن يكون ذكرًا في عقلية تلك الأيام، ولا بد من التعبير عنه بصيغ التذكير. كما يلاحظ أن الجاهليين قد تصوروه واحدًا، فلم يخاطبوه بصيغة الجمع، مما يفهم منه التعدد.
ولم يتطرق الشعر الجاهلي إلى موضوع وجود إلهة أي أنثى تكون زوجًا له. ولم يشر القرآن الكريم إلى اعتقاد الجاهليين بوجود زوجة له. فهو في نظرهم إذن إله واحد متفرد لا يشاركه مشارك في حياته. وإذ كان الله واحدًا أحدًا أعزب، فلا يمكن أن يكون له ولد.

1 اللسان "3/ 420"، "ندد".

ولكن القرآن الكريم يشير إلى اعتقاد الجاهليين بوجود بنين وبنات لله. ففي سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وقد ذهب المفسرون إلى أن العرب قالت الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى عزير والمسيح ابنا الله، وأن النصارى قالت المسيح ابن الله، وقال المشركون الملائكة بنات الله2. وفي سورة النحل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3، وفي سورة الصافات: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} 4، {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 5. وفي سورة الزخرف {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} 6 وفي سورة الطور {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 7. وأجمعوا على أن قريشًا وأضرابهم كانوا يزعمون أن الله اصطفى الملائكة بناتًا له. ولم يذكروا كيف صاروا له بناتًا. وقد ورد في بعض الروايات أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبوبكر من أمهاتهن؟ فقالوا: بنات سروات الجن"8.
وورد في بعض أقوال علماء التفسير، أن "أعداء الله" زعموا: أن الله وإبليس أخوان9. ولم يذكروا من هم "أعداء الله" أهم من العرب أم من غيرهم!.
ويظهر أن الذين آمنوا بوجود إله، تصوروا مكانه فوق الإنسان، أي فوق الأرض، في السماء. لذلك كانوا إذا توجهوا إليه بالدعاء رفعوا أيديهم إلى السماء. والسماء، المكان المرتفع اللائق بأن يكون مقر الرب أو الأرباب. وهو اعتقاد نجده عند غير الجاهليين أيضًا. ومن هذه النظرة ظهر "بعل سمين" "بعل سمن"، أي "رب السماء" و"إله السماء" المذكور في بعض نصوص المسند. وهو إله قبيلة "أمر" "أمر" من القبائل العربية الجنوبية. الإله المرسل للسحاب.

1 الأنعام، الرقم 6، الآية 100.
2
تفسير الطبري "7/ 197 وما بعدها" روح المعاني "7/ 209".
3
النحل، الرقم 16، الآية 57.
4
الصافات، الرقم 37، الآية 149.
5
الصافات، الرقم 37، الآية 151 وما بعدها.
6
الزخرف، الرقم 43، الآية 16.
7
الطور، الرقم 52، الآية 39.
8
تفسير الطبري "23/ 69".
9
تفسير الطبري "23/ 69".
ومنزل الغيث وباعث الحركة والخصب والخير للناس1. وقد تعبد له الصفويون كذلك، وذكر في نصوصهم. وعرف عندهم بـ"هـ - بعل سمن"2.
ولهذه النظرة اتخذ زهادهم لهم معابد خلوية على قمم الجبال وعلى الهضاب والمرتفعات وابتنوا الصروح للتعبد فيها ومناجاة الرب، واتخذوا من الكهوف المنقورة في الجبال مآوي يتعبدون فيها ويعتكفون الأيام والشهور والسنين. وكانوا إذا أمسكت السماء قطرها، وأرادوا الاستمطار، أصعدوا البقر في جبل وعر، وقد أضرموا النار في السلع والعشر المعقودين في أذنابها، وهم يتبعون آثارها، يدعون الله ويستسقونه3. ولولا اعتقادهم أن الجبل أقرب إلى الله من الأرض، لما أتعبوا أنفسهم، فصعدوا الجبل المرتفع مع بقرهم، فكان استسقاؤهم من الأرض.

1.Rep, Epligr, 4142, Grohmann, s. 245.
2 F. V. Winnett, Safaitic Inscriptions from Jordan, p. 18, 23
3
ابن فارس، رسالة النيروز "ص18 وما بعدها".
الجبر والاختيار:
هذا وأود أن أبين أن أكثر الذين كانوا يدينون بالتوحيد، ويعتقدون بوجود إله واحد خلاق لهذا الكون، كانوا يؤمنون بما نسميه: "القضاء والقدر" أو "الجبر" بتعبير أصح. فالخير والشر من الله، وكل شيء في هذا الكون محتوم مكتوب. وما يصيب الإنسان، لا بد أن يكون قد كتب عليه، ولا راد لما هو مكتوب، بل نجد هذه النظرة حتى عند من لم يأت اسم الله في شعره، فلا ندري أكان من المؤمنين بالله أم لا. وفكرة أن كل شيء في هذا الكون مقدر محتوم، فكرة قديمة غلبت على عقلية الشرقيين؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية التي كانت سائدة إذ ذاك، أوضاع جعلت الغالبية من الناس تشعر أنها مسخرة، وأنها تدفع في حياتها دفعًا وفي سبيل خدمة النخبة المتحكمة، المسيرة للأمور، أضف إلى ذلك تأثير عامل الجو في الإنسان.
وقضية الجبر والاختيار، قضية لا نجدها عند المؤمنين بوجود إله هو "الله"، أو آلهة أخرى من الجاهليين فقط، بل نجدها عند غيرهم أيضًا ممن لم يكن يقر بعبادة "الله"، وينكر وجود خالق، نجدها عند من كان يتعبد للأصنام.
أو للقوى الخفية، أو لا يدري أي شيء عن الآلهة والخلق، أو من الدهرية، القائلين بالدهر. فهؤلاء أيضًا كانوا يعتقدون أن الإنسان، مسير ولا اختيار له في هذه الدنيا، فكل شيء مكتوب عليه. كتب عليه منذ ولد. والسبب، هو ما قلته: وجود عوامل عديدة سيرت الإنسان واستعبدته من أوضاع سياسية واجتماعية وعسكرية واقتصادية ومناخية تحكمت فيه، حتى رسخ في عقل الجاهلي، أن كل شيء في هذه الدنيا مقدر مكتوب، وأن ما كتب على الجبين، لا يمكن تغييره ولا تبديل له، ولا اعتراض على ما هو مكتوب، ولا راد لأمر كتب في السماء.
الموت:
وفي مطلع قائمة الموضوعات التي أثارت البشرية ولا تزال تثيرها قضية الموت الذي هو ضد الحياة والعالم الثاني الذي يصير إليه الإنسان بعد الموت1. إن الموت أمر مخيف راعب يثير مشاعر كل إنسان. فما الذي سيكون مصيره بعد الحياة، وإلى أي مكان سيتجه بعد هذه الحياة، وهل الموت انطفاء لشعلة الحياة وانحلال للجسد إلى الأبد؟ أو هو مرحلة من حياة إلى حياة أخرى يحيا فيها الإنسان حياة جديدة، ويبعث بعثًا جديدًا يبعثه من خلقه؟ ثم ما الذي سيكون عليه في العالم الثاني؟ هل يعيش عيشة راضية مطمئنة، عيشة تفوق معيشته في عالمه الأول؟ أم سيعيش عيشة أخرى؟ إما راضية ناعمة، وإما شقية تعسة بحسب عمل الإنسان وما قدمه لنفسه من عمل في العالم الأول؟ هذه الأسئلة وعشرات من أمثالها شغلت بال الإنسان البدائي والراقي ولا تزال تشغله. كل وجد لها أجوبة، وكل قنع بما أجاب به عنها، ورضي بها. وكانت للجاهليين على اختلافهم آراء في هذه المشكلات لا شك في ذلك.
والموت في كلام العرب: السكون. يقال مات بمعنى سكن2. وهذا هو المعنى المفهوم للموت عند الجاهليين. فالمراد من الموت هو سكون الجسد بعد مفارقة الروح له. وقد حار الجاهليون كما حار غيرهم في تفسير ظاهرة الموت، وكيفية وقوع الموت وحدوثه.

1 المخصص "2/ 64".
2
تاج العروس "1/ 586"، "موت".
وقد اعتبره بعضهم حدثًا طبيعيًّا، يحدث للإنسان كما يحدث لأي شيء آخر في هذا الكون من التعرض للهلاك والدمار. واعتبره بعض آخر، مفارقة الروح للجسد. وهم الذين اعتقدوا بالثنائية وبالازدواجية في حياة الإنسان، أي بوجود جسد وروح. واعتبره آخرون موت للنفس، وبوفاة النفس يتوفى الجسد ويصيبه السكون. فالموت عندهم مفارقة الروح للجسد، فإذا مات الإنسان خرجت روحه من أنفه، أو من فمه، فينفض الإنسان نفسه. وإذا مات ميتة طبيعية، يقال عن الميت: مات حتف أنفه، ومات حتف فيه، أي أن روحه خرجت من أنفه أو من فمه، وهو قليل؛ لأن النفس في نظر أهل الجاهلية تخرج بتنفسه، كما يتنفس من أنفه. ويقال أيضًا حتف أنفيه. وكانوا يعتقدون أن المريض تخرج روحه من أنفه، وأما القتيل، والجريح، فتخرج روحه من موضع جرحه1.
ويقال: "زهقت نفس فلان"، أي خرجت روحه. فهم يتصورون إذن أن روح الإنسان كائن مستقل إذا فارق الجسد مات. "وفي الحديث: إن النحر في الحلق واللبة، وأقروا الأنفس حتى تزهق، أي حتى تخرج الروح من الذبيحة ولا يبقى فيها حركة"2.
و"الرمق" بقية الحياة، أو بقية الروح، وآخر النفس3. فكأنهم تصوروا أن الشخص المريض أو الجريح. قد ودع معظم نفسه، ولم تبق من روحه إلا بقية لا تزال في جسده، هي الرمق.

1 تاج العروس "6/ 64 وما بعدها"، "حتف".
2
اللسان "10/ 147"، "زهق".
3
اللسان "10/ 125"، "رمق".
البعث:
لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث كما يتبين ذلك من القرآن الكريم. لقد كانوا يرون أن الموت نهاية، وأنهم غير مبعوثين، وأن البعث بعد الموت شيء غير معقول، لذا تعجبوا من قول النبي بوجود البعث والحساب. {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 1، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2، {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} 3. و {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 4، و {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} 5، و {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 6، و {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، َقَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 7، و {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 8، و {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 9. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} 10، {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ

1 الأنعام، الآية 29.
2
النحل، الآية 38، تفسير الطبري "8/ 104 وما بعدها".
3
الإسراء، الآية 49 وما بعدها، تفسير الطبري "14/ 104 وما بعدها" روح المعاني: "14/ 128".
4
التغابن، رقم 64، الآية 7.
5
الحج، رقم 22، الآية 5.
6
هود، رقم 11، الآية 7.
7
المؤمنون، الآية 82، الصافات، الآية 16.
8
الوعد، الآية 5.
9
المؤمنون، الآية 35 وما بعدها.
10
سورة النمل، رقم السورة 27، الآية 67 وما بعدها.

مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 1. {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2
والآيات المتقدمة وأمثالها3 كلها حكاية عن رأي كثير من الجاهليين في نفي البعث وفي عدم إمكان العودة إلى حياة أخرى بعد موت يهلك الجسم ويفني العظام فيجعلها رميمًا ويمحو كل أثر للجسم، لذا كان البعث من أهم ما عارض فيه الجاهليون معارضة قاسية شديدة، وكان من الموضوعات التي تندروا بها وسخروا وآخذوا عليها الرسول4. وكانوا يقولون: "إن هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها. وهي الموتة الأولى، وما نحن بمنشرين بعد مماتنا ولا بمبعوثين تكذيبًا منهم بالبعث والثواب والعقاب". وقالوا للرسول: "فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا إن كنتم صادقين إن الله باعثنا من بعد بلانا في قبورنا، ومحيينا من بعد مماتنا"5 وقالوا: "أئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا أئنا لمبعوثين؟ يقولون منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم. أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا ومصيرنا ترابًا وعظامًا قد ذهب عنها اللحوم. أو آباؤنا الأولون الذين مضوا من قبلنا فبادوا وهلكوا؟ "6.
وكان من محاججة قريش للرسول ومحاولتهم إفحامه وتعجيزه قولهم له يوم اجتمعوا به: "يا محمد؟ فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا ولا أقل ماءً ولا أشد عيشًا منا. فسل5 لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشأم والعراق. وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولًا كما

1 السجدة، رقم السورة 32، الآية 10 وما بعدها، تفسير الطبري "21/ 96"، روح المعاني "21/ 112 وما بعدها".
2
الدخان، رقم السورة 44، الآية 34 وما بعدها، تفسير الطبري "25/ 76 وما بعدها".
3
هود 7، المؤمنون 82 وما بعدها، سبأ 3 وما بعدها، الجاثية 24 وما بعدها.
4
الكشاف "1/ 448"، "2/ 74، 189، 195 وما بعدها"، الطبرسي "7/ 39"، "14/ 75"، "15/ 58".
5
تفسير الطبري "25/ 76"، "1/ 78 وما بعدها".
6
تفسير الطبري "23/ 30".

تقول! "1. وسألوه أسئلة أخرى من هذا القبيل؛ لتعجيزه في إثبات البعث. "جاء عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبعث الله هذا ويميتك ثم يدخلك جهنم"2 وأتى "أبي بن خلف" رسول الله "بعظم حائل ففته ثم ذراه في الريح. ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم؟ قال الله يحييه ثم يميته ثم يدخلك النار"3 و"جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل ففته بين يديه. فقال يا محمد أيبعث الله هذا حيًّا بعدما أرم؟ قال: نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم"4.
وممن أنكر البعث على ما ذكره الأخباريون قوم من قريش كانوا زنادقة أنكروا الآخرة والربوبية، أخذوا زندقتهم هذه من الحيرة5. وإذا كان من هؤلاء من كان يقدم القرابين والهدايا لأصنامه، فإن ذلك لا يعني أنه كان يفعل ذلك لترضى عنه في العالم التالي، بل كان يفعل ذلك لترضى عنه في هذه الحياة الدنيا، لتمن عليه بالنعم والخيرات. أما العالم الثاني، فهو عالم لا يهتم به؛ لأنه لم يكن يتصور وجوده ولا حدوثه بعد الموت 6.
ويتجلى هذا الإنكار للحشر والبعث في أبيات تنسب إلى "شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك" يرثي بها قتلى قريش يوم بدر، وهم الذين قتلوا في تلك المعركة وألقوا في القليب:
أيوعدُني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ؟
أيعجزُ أن يردَّ الموت عني ... وينشرني إذا بليت عِظامي
أراد الشاعر إنكار البعث، وأن يصير الإنسان مرة أخرى إنسانًا بعد أن تتحول

1 ابن هشام "1/ 186"، "حاشية على الروض".
2
تفسير الطبري "23/ 21"، روح المعاني "23/ 50".
3
تفسير الطبري "23/ 21"، الاشتقاق "80".
4
تفسير الطبري "23/ 21".
5
المحبر "ص161"، بلوغ الأرب "1/ 345"، المعارف "621".
6 Reste. S. 185.

روح الإنسان إلى طير1.
وذكر أن "الحارث بن عبد العزى" أبو رسول الله من الرضاعة، لما قدم مكة، قالت له قريش: "ألا تسمع يا حارث ما يقول ابنك هذا؟ فقال: وما يقول: قالوا: يزعم أن الله يبعث بعد الموت، وأن لله دارين يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه. فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا"2.
فهم ينكرون البعث والحساب، ولا يريدون سماع شيء عنهما، ولا يصدقون عودة الروح إلى الجسد بعد أن فارقته، فذلك عندهم من المستحيلات، ولذلك سخروا من البعث لما سمعوا به. وكيف يكون بعثًا وقد فنيت الأجساد، فلم تبق منها بقية!
فرأي من أنكر الحشر والبعث من أهل الجاهلية، أن الحياة حياة واحدة، هي حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا، ولا يكون بعد الموت بعث ولا حساب نحيا ونموت، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، وما يميتنا إلا الأيام والليالي، أي مرور الزمان وطول العمر3. فالحياة إذن حياة وموت في هذه الدنيا. وهي استمرار للاثنين على مدى الدهر، يولد إنسان ثم يموت ليحل محله إنسان آخر، وهكذا بلا انتهاء.
ونجد رأي الناكرين للبعث في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 4. فهم يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم؛ لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء. والدهر الزمان، وهو الذي يهلك ويفني5. فالحياة بهذا المعنى، فعل مستمر، وتطور لا ينتهي، يهلك جيل،

1 وهي من أبيات رويت بصور مختلفة، وفي بعضها زيادات، راجع ابن هشام "1/ 113"، هامش على الروض الأنف، كتاب الصبح المنير في شعر أبي بصير "ص308"، "طبعة أوروبة 1927"، بلوغ الأرب "2/ 198".
يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟
بلوغ الأرب "2/ 192".
2
الروض الأنف "1/ 107".
3
تفسير الطبرسي "25/ 136"، "بيروت"، "25/ 78"، "طهران".
4
الجاثية، الآية 24، تفسير الطبري "25/ 91"، روح المعاني "25/ 139".
5
تفسير الطبري "25/ 91 وما بعدها"، "بولاق"، "25/ 151 وما بعدها".
"
القاهرة 1954".
ليأخذ محله الجيل الذي نبت منه. وكل يأخذ دوره في هذه الحياة، فإذا انتهى دور إنسان، قام بدوره نسله، وهكذا، وبهذا المعنى تفسر الحياة، ويفسر الموت.
وقد يسأل سائل إذا كان أغلب أهل الجاهلية لا يؤمنون بثواب ولا بحساب وبعث ونشر، فلمَ تعبدوا إذن لإله، وتقربوا إلى الأصنام، وقدموا القرابين والنذور؟ وجوابي على هذا السؤال، هو ما ذكره المتقدمون عنه. قالوا: "كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة؛ إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها"1. فعبادتهم الله وتقربهم إلى الآلهة، هي لمصلحة دنيوية، لنفع ولزيادة في مال، ولدفع شر الأذى والأمراض وعيون الحساد، ومن كل ما هو شر، أما الآخرة، فلا علم لهم بها.
وما خوفهم من الآلهة إلا لاعتقادهم أنها تضرهم وتهلكهم وتنزل بهم الشر في هذه الدنيا. فإذا أقسم أحدهم كذبًا، انتقمت الآلهة منه وأنزلت به نازلة، لذلك تجنبوا الإيمان الكاذبة، وامتنعوا من الحلف جهد إمكانهم؛ لخوفهم من عاقبة الحلف الكذب. والعاقبة السيئة تكون في هذه الدنيا. وهي عواقب مادية؛ لأن عقلية أكثر أهل الجاهلية لا تدرك إلا القيم المادية للأشياء. فتصوروا العاقبة السيئة تصورًا ماديًّا، كنزول مرض بإنسان أو نزول كارثة بماله أو بإبله أو بزرعه أو بأهله، وهي أمور يخشاها الجاهلي، تكون معجلة في نظره، أي في هذه الدنيا؛ لأنهم لا يعرفون أن في الحياة دارًا غير هذه الدار، ولا يؤمنون بحشر وبعث.
جاء في الأخبار أن "ضمام بن ثعلبة" السعدي، ويقال التميمي، لما قدم على الرسول أقبل حتى وقف على رسول الله، وهو في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله: أنا ابن عبد المطلب. قال: أمحمد؟ قال: نعم. قال: يابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك قال: لا أجد في نفسي سل عما بدا لك. قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نعبده وحده.

1 تفسير القرطبي "2/ 432".
لا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم. ثم سأله عن الفرائض، فأسلم. فلما قدم على قومه، فاجتمعوا إليه "فكان أول ما تكلم به، أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم أنهما والله ما يضران وما ينفعان"1 فالعقاب عقاب مادي في هذه الدنيا، ترسله الآلهة على الإنسان.
غير أن فريقًا من الجاهليين كما يقول أهل الأخبار كان يؤمن بالبعث وبالحشر بالأجساد بعد الموت، ويستشهدون على ذلك بـ"العقيرة" وتسمى البلية" أيضًا. والبلية الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها إذا مات حتى تموت جوعًا وعطشًا. ويقولون إنه يحشر راكبًا عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلًا، وهذا مذهب من كان يقول منهم بالبعث، وهم الأقل. ومنهم زهير فإنه قال:
يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر ... لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ2
ويذكر أيضًا أنهم كانوا يعكسون رأس الناقة أو الجمل أي يشدونه إلى خلف بعد عقر إحدى القوائم أو كلها لكيلا تهرب، ثم يترك الحيوان لا يعلف ولا يسقى حتى يموت عطشًا وجوعًا، ذلك لأنهم كانوا يرون أن الناس يحشرون ركبانًا على البلايا ومشاة إذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم3، وفي هذا المعنى قال الشاعر في البلية:
كَالبَلايا رُءوسُها في الوَلايا ... مانِحاتِ السَموم حَرَّ الخُدودِ
والولايا هي البراذع، وكانوا يثقبون البرذعة فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة. وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذه الوصية:
يا سعدُ إما أهلكن فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب

1 الاستيعاب "2/ 207 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
2
الروض الأنف "1/ 96" الشعر والشعراء "1/ 76" "بيروت 1964م".
3
تاج العروس "10/ 43"، اللسان "18/ 92" النهاية "1/ 115" رسالة الغفران "333 وما بعدها"، "بنت الشاطئ".

لا تتركن أباك يمشي خلفهم ... تعبًا يخر على اليدين وينكب
احمل أباك على بعير صالح ... وابق الخطيئة إنه هو أصوب
ولعل مالي ما تركت مطية ... في اليم أركبها إذا قيل اركبوا1
وذكر أنهم كانوا يحفرون للبلية حفرة وتشد رأسها إلى خلفها وتبلى، أي تترك هناك لا تعلف ولا تسقى حتى تموف جوعًا وعطشًا. وكانت النساء، يقمن حول راحلة الميت فينحن إذا مات أو قتل، وقد عرفن بـ"مبكيات"2.
وفي رواية أن بعض المشركين كان يضرب راحلة الميت بالنار وهي حية حتى تموت3، يعتقدون أنهم إنما يفعلون ذلك؛ ليستفيد منها الميت بعد الحشر4.
وإذا كانت عقيدة الجاهليين في عقر الحيوانات المسكينة وإهلاكها قد ماتت وزالت؛ بسبب تحريم الإسلام لها، فإن فكرة حشر الناس ركبانًا لا تزال باقية حية عند بعض الناس. فالذين يقدمون "العقيقة" في الحياة أو يقدمونها حين الوفاة ومع نقل الجنازة أو على القبر، يختارون أحسن الحيوانات وأقواها لتتمكن من حملهم يوم الحشر، وتنهض بهم، فيسير راكبًا، ولا يحشر وهو مترجل يسير في تلك الساعات الرهيبة ماشيًّا على قدميه.
ويقال للموت وللحساب "اللزام"5.
ولا أعتقد أن نحر الإبل على القبر وتبليله بدم الإبل المذبوحة6، مجرد عادة يراد بها إظهار تقدير أهل الميت له، أو تمثيل كرم الراحل حتى بعد وفاته، بل لا بد أن يكون هذا النحر من الشعائر الدينية والعقائد الجاهلية التي لها علاقة بالموت وباعتقادهم أن موت الإنسان لا يمثل فناء تامًّا وإنما هو انتقال من حال إلى حال.

1 الشعر لـ"جريبة بن الأشم الفقعسي" يوصي ابنه به وقد ورد بصور أخرى، راجع الروض الأنف "1/ 96" النهاية لابن الأثير "1/ 115"، اللسان "14/ 85 وما بعدها" تاج العروس "10/ 43"، طبقات الأمم "49".
2
اللسان "14/ 85 وما بعدها"
3
المخصص "6/ 122" اللسان "16/ 15" الأغاني "6/ 122".
4
الأغاني "16/ 48"، "أخبار زيد الخيل"، "17/ 176"، "بيروت 1955"، Reste, s. 180
5
تاج العروس "9/ 59"، "لزم، المخصص "6/ 122".
6
الأغاني "19/ 88".
وذكر "السكري" أن أكثر العرب كانوا يؤمنون بالبعث. واستشهد على ذلك بشعر للأعشى، ذكر فيه الحساب. كما ذكر أنهم كانوا يؤمنون بالحساب، واستشهد على رأيه هذا بشعر للأخنس بن شهاب التميمي1. وقول "السكري" هذا مردود بما رد في القرآن الكريم من إنكار أغلبهم للحساب والبعث والكتاب، وأما الذين قالوا بالبعث، فهم طائفة لا تصل إلى مستوى الكثرة أو الكل حتى نستعمل صيغة التعميم.
وإذا كان ما تصوره أهل الجاهلية عن البعث والحشر صحيحًا على نحو ما ذكره أهل الأخبار فلا يستبعد أن يكون القائلون به أو بعضهم قد تصوروا الحساب على نحو ما يحاسب الإنسان على عمله في دنياه. ويلاحظ أن القيامة والبعث والحشر والجنة والنار هي من الكلمات العربية التي لا يستبعد أن يكون لها مفهوم قريب من مفهومها الإسلامي عند الجاهليين.
أما كيف تصور أولئك الجاهليون حدوث البعث والحشر، هل هو قصاص وثواب وعقاب وحساب وجنة ونار، أو هو بعث وحشر لا غير، فأهل الأخبار لم يأتوا عنه بجواب، ولم يذكروا رأي تلك الفئة المقرة بالبعث والحشر في ذلك. ولهذا فليس في استطاعتنا إعطاء صورة واضحة عن الحشر وعما يحدث بعده من تطورات وأمور.
ولم تتحدث الكتابات الجاهلية عما سيحدث للإنسان بعد موته. وكل ما ورد فيها هو توسل إلى الآلهة بأن تنزل غضبها على كل من يحاول تغيير قبر، أو إزالة معالمه، أو دفن ميت غريب فيه، وأن تنزل به الأمراض والآفات والهلاك. ولم تذكر تلك النصوص السبب الذي حمل أهل القبور على التشدد في المحافظة على القبر وعلى ضرورة بقائه ودوامه. فلا ندري إذا كان ذلك عن تفكير بوجود بعث، ويتصور قيام الميت من قبره مرة أخرى، ورجوعه ثانية إلى الحياة، أو إلى عالم ثانٍ، هو عالم ما بعد الموت، ولهذا حرصوا حرصًا شديدًا على عدم السماح بدفن أحد في قبر، إلا إذا كان من أهل صاحب القبر ومن ذوي رحمه، حتى لا يتأذى الميت من وجود الغرباء، وليستأنس بأهله وبذوي قرابته مرة أخرى بعد عودة الحياة إليه، فيرى نفسه محشورًا معهم، ومع من أحبه في حياته، عائشًا معهم، كما كان قد عاش معهم، أو أن حرصهم على حرمة القبر، إنما كان عن مراعاتهم لحرمة القبر، وعلى منزلة الموتى، فالمس بحرمة القبر، مس بحرمة الميت، وانتهاك لمقامه ولمكانته، ولما كان عليه في هذه الحياة!


1 المحبر "322".
وهناك من كان يعتقد أن الميت وإن غيب في قبره وانقطعت علاقته بآله وذويه إلا أن روحه لن تموت، وأنه يظل وهو في قبره يقظًا، متتبعًا لأخبار أهله. تخبره بها هامته التي تكون عند ولد الميت في محلته بفنائهم؛ لتعلم ما يكون بعده فتخبره به، حتى قال الصلت بن أمية لبنيه:
هامي تخبرني بما تستشعروا ... فتجنبوا الشنعاء والمكروها1
وأما ما ورد في الشعر الجاهلي من أمر الحشر والنشر والحساب والكتاب والعالم الثاني، فهو مما ورد ودوِّن في الإسلام، ولم أجد في رواية من روايات أهل الأخبار أن أحدًا من رواة الشعر الجاهلي، ذكر أنه نقل ما نقل من هذا الشعر من ديوان جاهلي، أو من كتاب كتب قبل الإسلام، ومع ذلك، فإن هذا المروي عن العالم الثاني قليل، لذلك لا نتمكن لقلته من تكوين صورة واضحة عن ذلك العالم ومن التحدث بطلاقة عن رأي أصحاب هذا الشعر في الحشر والنشر والبعث.
وأما ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" عن الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، فهو أوسع ما ورد في الشعر الجاهلي في هذا الموضوع. وأمية، هو الشاعر الجاهلي الوحيد الذي جاء أكثر شعره في نزعات دينية وفكرية، ذلك لأنه كان في شك من عبادة قومه، وكان على شاكلة غيره ممن سئم تلك العبادة، ينهى قومه عنها، ويسفه أحلامها، وقد تأثر باليهودية وبالنصرانية. وفي شعره اعتقاد بالجنة والنار والبعث. وبصحة المعاد الجسماني، وبوجود الجنة والنار بالمعنى الحقيقي، لا المجازي، وهو يتفق في ذلك مع الإسلام. كما تحدثت عن ذلك في الفصل الخاص بالأحناف.
وكان "الأعشى" ممن يؤمن بالله وبالحساب، وقد استشهد من قال ذلك عنه

1 مروج "2/ 133".
بأبيات شعر تشعر أنه كان يؤمن بالحساب وبقيام الإنسان بعد الموت لمحاسبته على عمله. من ذلك قوله:
يُراوِحُ مِن صَلَواتِ المَليكِ ... طَورًا سُجودًا وَطَورًا جُوَارا
بِأَعظَمَ مِنهُ تُقى في الحِسابِ ... إِذا النَسَماتُ نَفَضنَ الغُبارا1
وكان "زهير بن أبي سلمى" على مذهب من كان منهم يقول بالبعث: وهم الأقل2 قال:
يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر ... لِيَومِ الحِسابِ أَن يُعَجَّل فَيُنقَم3
وكان "حاتم" طيء من المتألهين، ومن المعتقدين بالحساب. وقد أورد أهل الأخبار له شعرًا في ذلك4.

1 رسالة الغفران "180".
2
الروض الأنف "1/ 96".
3
الروض الأنف "1/ 96".
4
رسالة الغفران "488".
البلية والحشر:
ولم يذكر أهل الأخبار كيف تصور القائلون بالقيامة والحشر من أهل الجاهلية قيام الموتى ومشيهم إلى المحشر. فقد ذكروا أن قومًا من الجاهليين كانوا إذا مات أحدهم عقلوا ناقة على قبره وتركوها حتى تبلى، وتسمى لذلك "البلية". وقالوا: "البلية كغنية الناقة التي يموت ربها، فتشد عند قبره، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعًا وعطشًا أو يحفر لها وتترك فيها إلى أن تموت؛ لأنهم كانوا يقولون صاحبها يحشر عليها، و"كانوا يزعمون أن الناس يحشرون ركبانًا على البلايا ومشاة إذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم". وذكر أنهم" كانوا في الجاهلية يعقرون عند القبر بقرة أو ناقة أو شاة، ويسمون العقيرة البلية". "وفي فعلهم هذا دليل على أنهم كانوا يرون في الجاهلية البعث والحشر بالأجساد وهم الأقل: ومنهم زهير"5. وفي هذا المعنى يقول جريبة بن أشيم6:

1 تاج العروس "10/ 43 وما بعدها"، "بلي"، القاموس "4/ 350 وما بعدها".
2
اللسان "12/ 625"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112" "هيم" "جريبة بن الأشيم الفقعسي"، بلوغ الأرب "2/ 307".

يا سعد إما أهلكن فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب
لا أعرفن أباك يحشر خلفكم ... تعبًا يخر على اليدين وينكب
واحمل أباك على بعير صالح ... وتقي الخطيئة أنه هو أصوب
ولقل لي مما جمعت مطية ... في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا1
ومن ذلك قول عمرو بن زيد المتمني يوصي ابنه عند موته في البلية:
أَبُنَيَّ زَوِّدْني إذا فارقْتني ... في القبرِ راحلَةً بِرَحْلٍ قاترِ
للبعْثِ أركبُها إذا قيلَ اظْعنوا ... مُسْتَوْسِقينَ معًا لحشْرِ الحاشرِ
منْ لا يوافيهِ على عَيْرانةٍ ... والخلقُ بين مُدَفَّعٍ أو عاثِرِ2
وقال عويمر النبهاني:
أبني لا تنس البلية إنها ... لأبيك يوم نشوره مركوب3
وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا:
لا تتركن أباك يحشر مرة ... عدوًّا يخر على اليدين وينكب4
وطريقتهم في ذلك أن أحدهم إذا مات، بلوا ناقته، فعكسوا عنقها إلى مؤخرتها مما يلي ظهرها، أو مما يلي كلكلها أو بطنها، ويأخذون ولية فيشدون وسطها، ويقلدونها عنق الناقة، ويتركون الناقة في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت، وربما أحرقت بعد موتها، وربما سلخت وملئ جلدها ثمامًا5.
قال شا عر في البلية:
والبلايا رؤوسها في الولايا ... ما نحات السموم حر الخدود

1 اللسان "12/ 624"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112"، "هيم"، بلوغ الأرب "2/ 307 وما بعدها".
2
بلوغ الأرب "2/ 309".
3
بلوغ الأرب "2/ 309".
4
الروض الأنف "1/ 96".
5
بلوغ الأرب "2/ 307"، اللسان "14/ 85 وما بعدها"، "بلا".
والولايا هي البراذع. وكانوا يثقبون البرذعة، فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة حتى تموت1.
أما كلمة "جهنم"، فيرى العلماء أنها من الكلمت المعربة. ويظن المستشرقون أنها من أصل عبراني2. ومن أسماء جهنم على رأي علماء اللغة "الهاوية"3. و"أم الهاوية"4.

1 الروض الأنف "1/ 96".
2
المعرب، للجواليقي "ص107" "طبعة دار الكتب المصرية" Ency, I, p 998.
3
اللسان "20/ 250".
4
المخصص "11/ 38".
الفصل الخامس والستون: الروح والنفس والقول بالدهر (صفحة 136)


هناك تعليق واحد:

  1. Look at the way my pal Wesley Virgin's autobiography launches in this shocking and controversial VIDEO.

    Wesley was in the military-and shortly after leaving-he unveiled hidden, "self mind control" secrets that the CIA and others used to get whatever they want.

    These are the exact same SECRETS tons of celebrities (especially those who "come out of nothing") and top business people used to become rich and famous.

    You probably know that you only use 10% of your brain.

    That's mostly because the majority of your brain's power is UNTAPPED.

    Maybe this thought has even taken place IN YOUR very own brain... as it did in my good friend Wesley Virgin's brain around 7 years back, while driving a non-registered, beat-up trash bucket of a car without a driver's license and in his pocket.

    "I'm absolutely fed up with going through life paycheck to paycheck! When will I get my big break?"

    You've been a part of those those conversations, ain't it so?

    Your success story is waiting to start. All you have to do is in YOURSELF.

    CLICK HERE TO LEARN WESLEY'S METHOD

    ردحذف