رسالة
في الطبيعة البشرية لديفيد هيوم – د. زكي نجيب محمود
تراث
الانسانية -1963
لكن ليكن من نشأة صاحبنا ما يكون، فحسبنا
في هذا المقام أن نعلم أنه في صدر شبابه قد أنتج هذا الكتاب ليذيع به في الناس
فلسفةً مبتكرةً غيّرت مجرى الفكر الفلسف من بعده، وما تزال تغيّره حتى يومنا هذا،
ولقد تشبثت به الفكرة الجديدة التي عارض بها مألوف الفلسفة في عصره، تشبثاً لم
يستطع معه أن يزاول عملاً يرتزق منه، فاكتفى بدخله الضئيل، ليحيا حياة الشظف بحيث
ينصرف بجهده إلى الدرس والتأمل، وأين يكون ذلك؟ إن فيلسوفنا الشاب لَيرحل عن بلاده
قاصداً إلى فرنسا
** ديفيد هيوم (1711ـ 1776)
ألّف كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية
قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره.
نشر الجزأين الأول والثاني عام 1739، ثم
الجزء الثالث بعد ذلك بعام واحد.
كل ما لاقاه كتابه هو عدم المبالاة، في وقت
كان ينتظر له أن يهز العالم.
أعاد نشر الكتاب في أجزاء مستقلة، بعد
مراجعة الصياغة: الجزء الأول الخاص "بحث في العقل البشري"، الذي لاقى
استحساناً. ألحقه بالجزء الثالث بعنوان "بحث في مبادئ الأخلاق" عام
1751. ولاقى ما لاقاه الأول من استحسان، ثم نشر بعض مادة الجزء الثاني، الخاص
بالعواطف، في مقالة.
تحليل
الإدراك العقلي:
موضوع
الجزء الأول من أجزاء "الرسالة" الثلاثة هو المعرفة العقلية التي
يحصّلها الإنسان: كيف يحصّلها وما قِوامُها؟
والرأي
عند هيوم في ذلك هو أن المصدر الوحيد الذي لا مصدر سواه لمعرفتنا بأسرها، مهما
تنوّعت موضوعاتها، هو الحواس بما تنطبع به من انطباعاتٍ مباشرة، كما تنطبع العين ـ
مثلاً ـ ببقعة من اللون أو كما تنطبع الأذن بنبرةٍ من الصوت؛ ولا يقتصر الأمر في
هذا على الحواس الظاهرة وحدها، بل يُضاف إليها كذلك الحواس الباطنة التي تجعلنا
نحسّ ما يجيش في أنفسنا من الداخل من انفعالات؛ حتى إذا ما زال المؤثر المسبِّب
لهذه الانطباعات، وبقيت آثارها، كانت هذه الآثار الباقية لدينا هي ما يطلق عليه
هيوم اسم "الأفكار"؛ فإذا قلنا ـ إذاً ـ المعرفة كلها عند هيوم تنحلُّ
إلى انطباعات حسيّة وأفكار، كنا كمن يقول إن المعرفة ترتدّ كلّها إلى انطباعات
حسّية، ما دامت الأفكار هي تلك الانطباعات نفسُها بعد أن غابت مؤثّراتُها
الخارجية، وأصبحت صوراً ذهنية أو قل أصبحت ذكريات لما كان قد حدث للحواس حدوثاً
مباشراً.
والفرق
بين الحالتين ـ حالة الانطباع الحسّي المباشر وحالة الفكرة التي تتخلّف عنه ـ هو
فرق في النصوع والوضوح؛ فليس منا من لا يعرف الفرق بين إدراك الحرارة ـ مثلاً ـ
ساعة لسعة الجلد بالشيء الحار، وبين إدراكِها عندما نستعيد ذكرى ما قد حدث؛
فالثانية هي صورة من الأولى لكنها محالٌ أن تبلغ مبلغَها في الوضوح؛ فالتفرقة إذاً
واضحة بين إحساسي بالشيء حين أكون على صلةٍ مباشرةٍ به وبين صورته أستعيدها في
ذهني حين لا يكون الشيءُ نفسه قائماً على مشهدٍ مني أو مسمع أو ملمس، وهيها أن
يختلط الأمر على أحدٍ بين هذين الوجهين، فر يدري أهو بصدد انطباعٍ حسّيٍ مباشر أم
بصدد فكرة؛ اللهم إلا إذا اختلّ المرء عن مرضٍ أوجنون؛ فعندئذٍ فقط قد تتشابه
علينا الحالات فلا ندري أيكون ما ندركُه إحساساً لشيء قائم فعلاً أم تصوراً لفكرةٍ
في رؤوسنا بغير أصل خارجي يقابلها لحظةَ الإدراك.
وإذاً
ففي مستطاعنا أن نقسم إدراكاتِنا العقلية قسمين، على أن يكون أساسُ القسمةِ هو
درجة الوضوح وقوةُ الأثر؛ وإلا فلو نظرنا
إلى تلك الإدراكات من حيثُ طبيعتُها لكانت كلُّها نوعاً واحداً هو ما تنطبع به
الحواس؛ فإذا جعلناها قسمين على أساس التفاوت في درجة الوضوح، أطلقنا اسم
"الانطباعات" على أكثرها وضوحاً وأقواها أثراً، واسم
"الأفكار" على أقلِّها في الوضوح وأضعفها في الأثر، فسمعُك شيئاً أو
رؤيتُه أو لمسُه، وكذلك حالاتُك الداخلة من حبٍّ وكراهيةٍ ورغبةٍ وإرادة، تكون
"انطباعاتٍ" حين تكون جليّةً واضحةً عميقةَ الأثر أثناء مباشرتِها
وممارستها؛ ثم تكون هي نفسُها "أفكاراً" حين تستعيدها في ما بعد باهتة
اللونِ خافتةَ الصوتِ ضعيفة الأثر.
وعلى ذلك
فلن نجد بين أفكارنا فكرةً واحدةً لا يمكن تعقّبها إلى الانطباع أو الانطباعات
التي كنا قد أحسسناها من قبلُ إحساساً مباشراً، نعم يستطيع الفكرُ أن يركّب من
حصيلته الحسّية ما شاء من مركّبات تجيء وكأنما هي لا تشبه كائناتِ الواقع في شيء،
مما يوهم المتعجل أن للفكر مصادر غير المعطيات الحسّية؛ لكن هذه المركّبات
الذهنيّة لو حلّلناها لوجدناها دائماً ترتدّ إلى عناصرَ مما جاءنا عن طريق الحواس
بطريقٍ مباشر؛ فقد يصوِّر الإنسان لنفسه ـ مثلاً ـ جبلاً من ذهب، ثم يقول: أين في
الدنيا الواقعةِ مثلُ هذا المخلوق الذي خلقتُه بفكري؟
لكنه في
الحقيقة لم يصنع سوى أن ركّب كائناً جديداً من أصلين حسّيين هما الجبل والذهب، فقد
رأى جبلاً وشهد ذهباً؛ لا بل إنك لتستطيع أن تشطح بخيالك إلى ما هو أبعدُ من ذلك،
فتصوّر لنفسك حصاناً يتحلّى بالفضيلة، لكنك ستكون عندئذٍ ما تزال في حدود خبراتك
المباشرة، فقد رأيتَ حصاناً بالعين، وشهدت أفعالاً أُطلِقَ عليها اسم الفضيلة، ثم
جئت الآن تؤلّف بين الخبرتين.
ومن
الشواهد التي تؤيّد القول بأن كل فكرة في رؤوسنا يمكن ردُّها إلى أصولها الحسّية،
أنّ من حُرِمَ حاسّةً حُرِم الأفكار التي كان يمكن أن تتركّب من الانطباعات
الواقعة على تلك الحاسّة المفقودة؛ فالأعمى لا يعرف ما اللون، والأصمّ لا يعرف ما
الصوت، فرُدَّ للأعمى بصرَه وللأصمّ سمعَه تفتح لهما طريقاً جديداً تنساب إليهما
منه أفكارٌ لم يكن لهما بها عهد؛ ومن هذا القبيل أيضاً أن تكون الحاسّة المعيّنة
سليمةً لكنها لا تقع عل شيءٍ بعينه، كأن تكون أنت سليم البصرِ لكنك لم ترَ الشيء
الفلاني، فعندئذٍ لا يصبح ذلك الشيءُ جزءاً من فكرك؛ أو أن تكون سليم الذوقِ لكنك
لم تذق طعاماً معيّناً، فعندئذٍ يستحيل عليك تصوّر مذاقه، وهكذا؛ وليس الأمر في
هذا مقصوراً على الحواس الظاهرة من بصرٍ وسمعٍ وغيرِها، بل هو كذلك واقعٌ بالنسبة
إلى حواسِنا الباطنية التي ندرك بها حالاتنا الوجدانية؛ فمن الناس من لا يعرف كيف
تكون العاطفة التي تدفع صاحبَها إلى القسوَة، ومَن طُبِع على الأنانية لا يتصوّر
كيف تكون عاطفة الإيثار.
وبناءً
على هذا الأساس في تحليل الأفكار وردِّها إلى أصولها الحسّية، يكون لدينا مقياسٌ
نقيس به الفكرةَ لنتبيّن عناصرَها ومقوّماتها؛ فماذا لو عثرتَ على فكرة استحال
عليك أن تردّها إلى أصولِها الحسيّة؟ إنه لا مفرَّ عندئذٍ من التسليم بأنها لا
تعدو أن تكون مجرّد لفظةٍ تُقال دون أن يكون لها "معنى"، أي دون أن يكون
لها مقابلٌ من الحقيقة تشير إليه: وإن أمثال هذه الأفكار التي لا ترتدّ إلى أصولٍ
حسّية، لَتكثُرُ عند الفلاسفة الميتافيزيقيين؛ فلا يخدعنّك أن تجد الفيلسوف الذي
يستخدم أمثال هذه الأفكار المزعومة يعرِّفُها ويحدِّدُها بسلسلة من اللفظ، لأن
الانتقال من لفظةٍ لى لفظةٍ دون أن تنتهي بنا السلسلةُ إلى الأصل الحسّي الذي
بدأتْ عندهُ، لا يدلُّ إلا على أن المفكّر بغير رصيدٍ من خبرةٍ مباشرة تؤيّد
أفكاره، ولا غرابة أن يجيء الفكرُ عندئذٍ غامضاً؛ وإن أيَّ غموضٍ يكتنف أفكارَنا
لَينقشعُ إذا ما ردَدنا الفكرةَ إلى أصولِها الحسّية التي هي خبراتُنا المباشرة.
ويلزم
عما أسلفناه أن الفكرة في رؤوسِنا إما أن تكون بسيطةً أو مركّبة، والبسيطة هي التي
لا يمكن تحليلُها، أعني هي التي تكون صورةً متخلّفة عن انطباعٍ واحدٍ معيّن،
كفكرتي ـ مثلاً ـ عن اللون الأصفر.
وأما
الفكرةُ المركّبة فهي التي لا يمكن [كذا] (تحليلُها إلى عناصرَ بحيث يكون كل عنصرٍ
صورةً بسيطةً متخلّفة عن انطباعٍ حسيٍّ معيّن، كفكرتي عن "البرتقالة"
يمكن تحليلها إلى لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ وشكلٍ إلخ؛ وما لا يرتدُّ على هذا النحو إلى
مراجعِهِ الحسّية المباشرة يكن مجرّد لفظٍ نردده بغير معنى.
لكن هذا
القول يسلّمنا إلى مشكلة عويصة، هي: كيف نفهم الألفاظ الكلّية المجرّدة برغم أنها
في ذاتها لا تشير إلى انطباعاتٍ جزئيةٍ حسّية معيّنة؟ خذ كلمة "إنسان"،
فماذا يرِدُ إلى ذهنك مما تعدّه أصلاً لهذه الكلمة؟
إن من
صادفتَهم في حياتِك كلِّها من أفراد الناس مختلِفٌ بعضُهم عن بعض، فلا هم ذوو طول
واحد، ولا جنسٍ واحد ولا مجموعةٍ واحدة من العادات السلوكيّة، لكن هؤلاء الأفراد
المختلفين هم وحدهم الذين انطبعت بهم حواسُّك انطباعاً مباشراً، فإذا كانت الفكرة
ذات المعنى هي التي يمكن ردُّها إلى انطباعاتٍ بعينها، فإلى مَن مِن هؤلاء الأفراد
تردّ فكرة "إنسان" في كلّيتها وتجريدها؟ أتردّها إلى فلان ممن صادفوك؟
لكن فلاناً هذا مختلِفٌ عن كل مَنْ عداه من الناس من حيثُ الانطباعاتُ التي جاءت
إلى حواسّك عنه، فإذا جاز لك أن تردّ فكرة "إنسان" إلى هذا الفرد من
الناس، فكيف يجوز لك بعد هذا أن تردّها هي نفسَها إلى غيره من الأفراد برغم
اختلافهم عنه في انطباعاتك الحسّية؟
قد تقول،
ولكن أردّ فكرةَ "إنسان" إلى ما هو مشترك بين هؤلاء الأفراد، فلا
أردُّها ـ مثلاً ـ إلى لونٍ معيّن أو إلى سلوكٍ معيّن أو إلى طولٍ معيّن، بل
أردُّها إلى الصفات التي نجدُها في كلّ فردٍ من الناس؛ ولكن ذلك يهدم المذهب من
أساسه، لأنه يقتضينا أن نجاوز حدود الخبرة الحسّية المباشرة، إذ الخبرةُ المباشرةُ
لا تقدّم إلينا إنساناً بغير لونٍ وبغير طولٍ حتى يجوز لنا أن نقول إننا نردّ
فكرةَ "الإنسان" إلى أصلٍ حسّيٍ مجرد من اللون والطول، فلكيلا نناقض
أنفسَنا لا بدّ أن نُرجع فكرة "إنسان" إلى الانطباعات الحسّية كما جاءت؟
وما دامت لم تجئ إلا عن هذا الفرد بعينه أو ذاك الفرد بعينه، فلا مندوحةَ لنا عن
أن نجعل الإسم الكلّي المجرّد مشيراً إلى واحدٍ فقط من هؤلاء الأفراد.
وهذا ه
ما يفسّر به هيوم الأسماء الكلّية المجرّدة؛ فالإسم من هذه الأسماء إنما يشير إلى
صورةٍ ذهنيّة جزئيّة (أو إلى "فكرةٍ" باصطلاح هيوم) على أن تكون هذه
الصورة بدورها نسخةً من انطباعٍ حسّي معيّن كنا قد انطبعناه في خبراتنا المباشرة،
والانطباع لا يكون بالطبع إلا لمؤثّرٍ جزئيّ بكامل فرديّته، لا تعميم فيه ولا
تجريد، فالفكرة المجرّدة "إنسان" ـ كما يقول هيوم ـ تمثّل أفراد الناس
الذين صادفناهم، ثم نشير إلى هذا الحد كلّه بكلمة "إنسان" وإما أننا
نكتفي بصورةٍ واحدة من تلك الصوَر الكثيرة، صورةٌ واحدةٌ لفردٍ واحدٍ معيّن، فتكون
هي المعنى الذي نشير إليه حين نستخدم كلمة "إنسان"، ولما كانت الوسيلة
الأولى مستحيلة على العقل الإنساني، فلم يبقَ إلا الوسيلة الثانية، وهي أن نتّخذ
أحدَ الأفراد ممثّلاً لبقيتهم.
هكذا
يتخلّص هيوم من مشكلة الأسماء الكلّية، بأن جعل كلَّ اسمٍ منها مشيراً إلى صورةٍ
جزئيّة واحدة تمثّل جميع أشباهها، وبهذا يمكن ردّ فكرتها إلى أصلها الحسّي الجزئي
المفرد؛ وبقي عليه أن يبيّن لنا كيف تلتئم الأفكار البسيطة داخل الرأس بعضها مع
بعض بحيث تتكوّن منها الأفكار المركّبة، فكانت وسيلتُه إلى بيان ذلك أن قال إن
ترابط الأفكار على هذا النحو يتبع قوانينَ معيّنة، وهي ثلاثة: التشابه، والتجاور
في زن الحدوثِ أو في مكانه، ورابطة العّة والمعلول، أي إن الفكرة المعيّنة تستدعي
زميلتها إذا كان بينهما تشابه، أو إذا كا نت قد وقعتا في لحظتين من الزمن
متتابعتين، أو وقعتا معاً في لحظةٍ واحدة، أو إذا كانتا قد وقعتا في موقعٍ واحدٍ م
المكان أو في موضعَين متقاربين، وكذلك تدعو الفكرةُ فكرةً أخرى إذا كانت علّةً لها
أو معلولةً لها، فرؤيتُك صورةً تستدعي إلى ذهنك صاحبَ الصورة، لما بين الأصل
وصورتِه من تشابه، وذِكْرُك مسكناً يستدعي المسكن الذي يجاوره لما بينهما من
تجاورٍ مكانيّ، وتفكيرُك في جرحٍ يستلزم تفكيرَك في الألم الذي يصاحبُه، لما
بينهما من علاقة العلّة بلمعلولِها.
العادات
الذهنية:
ومن أهم
المشكلات التي تعرّض لها هيوم، مشكلة "الهوّية" التي بفضلها نقول عن شيء
ما إنه هو هو برغم تعاقب اللحظات وتعاقب الانطباعات الحسّية التي نستقبلها منه،
فإذا كان هذا المكتب الذي أمامي يرسل إلى حواسّي لمعاتٍ من الضوء ولمساتٍ من
الصلابة تجتمع معاً داخل الرأس لتتكوّن منها فكرةً مركّبة هي ما أسمّيه بكلمة
"مكتب"، فلا بدّ لنا من مبدإٍ يفسّر لنا اعتقادنا بدوا وجود شيءٍ معيّن
في الخارج، هو الذي يبعث إلى الحواسّ بهذه الرسائل المتعاقبة؛ فعلى أيّ أساسٍ أحكم
بأن ذلك الشيء موجودٌ في الخارج مع أن كل ما لديّ عنه هو انطباعات حسّية، ثم على
أيِّ أساسٍ أحكم بأن ذلك الشيء نفسَه مستمرٌّ في وجوده حتى ولو خرجت من الفرقة
[الغرفة] ولم تعد حواسّي تتأثر بانطباعاته عليها، وأخيراً على أيّ أساسٍ أقول إنه
هو هو المكتب نفسه كلما وقع بصري عليه؟
ألا يجوز
أن يكون هناك مكتبٌ آخر شبيه كل الشبه بالمكتب الأول، وُضِعَ مكانه أثناء غيابي من
الغرفة؟
إن كل
هذه الاعتقادات منّي عن المكتب إنما ترتكز على مبدإٍ يجعل وجود المكتبِ مستقلاً عن
إدراكي له، ومن ثم فإنني أحكم بوجوده حتى ولو لم أكن أراه ولا ألمسه، ثم أحكم بأنه
مكتبٌ واحد، حتى ولو كنت أعاود رؤيته حيناً بعد حين؛ وذلك المبدأ هو مبدأ تكوين
العادات عند الإنسان، فلو كان ارتكازنا على الحواس وحدَها لقالت الحواس إنني لا
أملك إلا انطباعاتي ولا أدري إن كان هنالك شيءٌ خارج تلك الانطباعات أو لم يكن [؟]،
ولو كان مرجعنا هو العقل لقال العقل أن المقدمات التي بين يديّ ـ وهي سلسلة
الانطباعات الحسّية ـ لا تنتج بالاستنباط وحدَه نتيجةٌ تقول إن مجموعة الانطباعات
المتتابعة تكون في الحقيقة شيئاً واحداً وتأتي كلُّها من مصدرٍ واحد، واحتكامنا
إلى العقل لا يضمن لنا أبداً أن يكون الذي نراه الآن ثم نغيب عنه ثم نعود إلى
رؤيته لمرةٍ أخرى في يومٍ آخر هو هو نفسه الشيء ذاته لم يتغيّر ـ لكنها العادة
التي تتكوّن من رؤيتنا لمجموعة جوانبَ متجاورة أو متتابعة، فعندئذٍ إذا ما رأينا
جانباً واحداً فقط ورد إلينا بقية الجوانب بحكم العادة، بحيث تصبح وكأنها متماسكة
في شيء واحد؛ هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن صورتَها وهي متماسكة تكون شديدة الشبه
بصورتها حين أدرك الشيء في لحظاتٍ متباعدة، حتى ليدفعني هذا الشبهُ الشديد بين ما
رأيته بالأمس وما أراه اليوم إلى القول بأه هوهو الشيء نفسه في الحالتين؛ ولولا
"المادة" التي تشد الشبيه إلى شبيهه لرأيت كل حالة وكأنها مبتورةُ
الصيلة بأشباهها ولما أتيح لي أن أقول عن الشيء الواحد إنه واحد، ولا أقولُ عنه
إنه مستمرٌّ في وجوده شيئاً واحداً.وبهذا التفسير يستغني هيوم عن افتراض وجود
"جوهر" وراء أعراض الشيء ليضمن للشيء واحديّته واستمرار وجوده؛ فليس
الذي يجعلني أنا شخصياً "واحداً" هو قيام جوهير غيبي خلف ما يبدو للعيان
من سلوكي البدني، بل إن هذه الواحدية ترتدّ إلى كون الظواهر التي بدتْ مني يرتبط
بعضُها ببعضٍ ارتباطاً يكوّن عند الرائي "عادة" مؤداها أن يتوقّع كذا
وكذا لو وقع بصرُه منّي على السلوك الفلاني؛ وكذلك الذي يضمن أن أكون كائناً
مستمرَّ الوجود بهوّية واحدة هو التشابه الشديد بين النمط السلوكي الظاهر في لحاتٍ
مختلفة، وشدة الشبه كفيلةٌ أن تدمج الأشباه في الخيال دمجاً يجعلها كأنها كائنٌ
واحدٌ مستمرّ.
ونلخّص ما أسلفناه لنمضيَ
في الحديث، فنقول إنه لا أساس لمعرفتنا كلِّها إلا الانطباعات الحسّية، تلتئم
وترتبط داخل رؤوسِنا وِفق مبادئِ ترابطِ المعاني وتداعيها فتكوّن الأفكار المركّبة
التي في رؤوسنا؛ وتعوُّدُنا رؤيةَ مجموعةٍ معيّنة منها متلازمةٍ دائماً، هو الذي
يميل بنا إلى القول بأن لهذه المجموعة مصدراً واحداً مستمرّاً ذا هوّية معلومة ـ
ونمضي في الحديث فنقول إن عملية التفكير بعدئذٍ إما أن يكون قِوامُها ربط فكرةٍ
بفكرةٍ تقتضيها، وإما أن يكون قِوامُها ربطَ فكرةٍ بأصلها الخارجي؛ أو بعبارةٍ
أخرى عملية التفكير إما أن تكون رياضيّة استنباطية نستولد فيها فكرةً من فكرة،
وإما أن تكون متعلّقةً بأمور للواقع كما هي الحال في العلوم الطبيعية؛ فأما الصنف
الأول فنظريّ صِرف ويقينيُّ النتائج ما دامت مستنبَطةً استنباطاً صحيحاً من
مقدّماتها، كأن تقول مثلاً إن أربعةً مضروبة في خمسةٍ تنتج عشرين، وإن مجموع زوايا
المثلّث تساوي قائمتين، ففي حالاتٍ كهذه لا نريد إلا أن تكون النتيجة متسقةً مع
مقدّماتها، وما دامت المقدّمات صحيحةً فلا بد أن تكون النتائجُ صحيحة.
وأما
الصنف الثاني الذي نطابق فيه بين أفكارِنا من جهةٍ والواقع من جهةٍ أخرى فلا يقينَ
فيه، لأن أيَّ شيءٍ أقولُه عن أمور الواقع يجوز أن يكون نقيضُه هو الصحيح؛ فإذا
قلت عن ورقةٍ إنها بيضاء، فما الذي كان يمنع عند العقل أن تكون لوناً آخر لولا
التربة التي دلّتني على لونٍ معيّن دون سواه؛ وإذا قلت عن الشمس إنها ستشرقُ غداً
كما أشرقت قبل ذلك ملايين المرات، فإنما أقول ذلك على سبيل الترجيح، وإلا فما الذي
يمنع عند العقل ألا تشرقَ شمسٌ بعد اليوم؟
وهكذا
ترى الفرق بعيداً بين التفكير العقلي الخالص الذي يولّد فكرةً من فكرةٍ أخرى
تحتويها، والتفكير المرتكز على الخبرة الحسّية.
وإذاً،
فالخبرةُ الحسّية وحدها ـ لا التفكير العقلي
الخالص ـ هو المصدر الذي نستقي منه علمَنا بالواقع، ويستحيل علينا بغير تلك
الخبرةِ أن نتوقّع ما عساه أن يحدث من حوادث عالم الواقع، وإلا فكيف يمكن لإنسانٍ
بعقلِه البحت وبغير خبرةٍ حسّية سابقة أن يعلم عن دويّ البارود إذا ما تفجّر، أو
عن جذب المادة الممغطسة للمعادن؛ إلا أن ثمّة من خصائص الوقائع الطبيعية ما يخيَّل
إلينا أننا مدركوه بغير خبرةٍ حسّية، كالعلاقات السببيّة بين الأشياء، فقد يُقال
إننا بالعقل وحدِه ودون استناد إلى خبرةٍ حسّية
سابقة نستطيع القول ـ مثلاً ـ إن كرةً من كراتِ البلياردو لو تحرّكت وصدمت كرةً
أخرى لحرّكَتْها، لكن الأمر في حقيقته هو أن العلاقة السببية إنما تتكوّن عندنا
بحكمِ عادةٍ تنشأ لدينا من إطراد الارتباط بين الحادثة الأولى والحادثة الثانية
إطراداً يجعلُنا إذا ما وقعت الحادثة الأولى نتوقّع حدوث الثانية، ودون أن تكون
هنالك ضرورةٌ عقليّةٌ تقتضي ذلك، فالعقل البحت وحده لا
يستطيع أن يحكم بقوّة المنطق الصِرف أن حادثةً ما كانت مسبوقةً بكذا أو أنها ستلحق
بكذا، إنما هي التجربة وحدها التي تدلّنا على ذلك،
فالحادثة التي هي سبب مستقلّةٌ عن الحادثةِ التي هي مسبَّبٌ، وتحليل إحداهُما لا
يدلّ على الأخرى، فحركة الكرة الثانية من كرتيّ البلياردو حادثٌ قائم بذاته
بالنسبة إلى حركة الكرةِ الأولى، وليس في أيٍّ من الحركتين أقلُّ علامةٍ تشير إلى
ضرورةِ وجود الأخرى، فاقذف بحجرٍ في الهواء واتركهُ غير مستندٍ إلى شيء، يسقط على
الأرض من فورِه، لكن لا بدّ من خبرةٍ حسّية سابقة لأعلمَ منها هذا التتابع بين
الحادثين، وإلا فليس في وسع العقل البحت وحده أن
يحتّم بأن سقوط الحجر إلى الأرض متضمَّن الضرورة في كون الحجر موجوداً في الهواء،
وليس في حكم العقل ما يمنع أن يستمرَّ الحجرُ في صعوده إلى أعلى بدل سقوطه إلى
أسفل، أو ما يمنع أن يتحرّك الحجر إثر رميه في الهواء نحو اليمين أو نحو اليسار،
وما دام العقل لا ينفي أن يتحرّك الحجرُ في أيّ اتجاه، إذاً، فالخبرة هي مصدرُنا في
العلم بأن الاتجاه الفعلي للحجر ـ بين الممكنات الكثيرة ـ هو الاتجاه إلى أسفل.
إنني إذا
شهدتُ كرةً من كراتِ البلياردو متحرّكةً في اتجاه كرةٍ أخرى ساكنة، فهل يقضي
العقلُ المجرّد بضرورةِ أن تتحرّك الكرةُ الأخرى إذا ما مسّتها الأولى؟ ألا يمكن
عقلاً تصوّرُ أن تسكن الكرتان معاً؟ ألا يمكن عقلاً أن تصدمَ الكرةُ المتحرّكة
الساكنةَ وبدل أن تحرّكها تعود هي مرتدّةً أو تقفز فوقها ثم تسيرُ بعد ذلك في أيّ
اتجاه؟ هذه كلّها ممكناتٌ لا يرفضها العقل الخالص، والخبرة السابقةُ وحدها هي التي تدلّنا أيَّها هو الذي يحدث بالفعل.
تحليل
العواطف:
يستخدِم
هيوم لفظ "العواطف" ليدلَّ به على شتى صنوف الغرائز والدوافع النفسية
والميول والرغبات والانفعالات بالإضافة إلى ما نصطلح اليوم على تسميتِه بالعواطف
كالحب والكراهية، إلا أن هيوم برغم هذه السعة في معنى "العواطف فهو لا يريد
للقظ أن يشمل الشعور باللذة والشعور بالألم، لأنه يجعل هذين ضمن الانطباعات
الحسّية (أي في الجانب الإدراكي لا في الجانب الوجداني).
والعواطف،
بالمعنى المقصود عند هيوم تنقسم أنواعاً، فمنها الشهوات الفطرية التي ينشأ عنها
كثير من أنواع الاستمتاع، كالشهوة إلى الطعام وإلى الجنس مما لا ينبني على خبرات
سابقة، وتلك هي العواطف الأوّلية؛ يليها مجموعةٌ أخرى من العواطف تشترك مع
المجموعة السابقة في أنها مؤسسة على الطبيعة البشرية، لكنها تعود فتختلف عنها في
كونها تستند أيضاً إلى خبراتٍ سابقة بمصادرِ اللذة والألم؛ مثال ذلك رغبتُنا في
لونٍ بعينه من الطعام، فها هنا نجد شهوة الطعام الفطرية مضافاً إليها خبرةٌ سابقة
بهذا الطعام العيّن المرغوب فيه الآن؛ وتلى هذه المجموعة الثانية من العواطف
مجموعةٌ ثالثة تكون فيها استثارة الخبرة الماضية مصحوبةً بأفكارٍ أخرى لا تتصل
بالشيء المشتهى صلةً مباشرة، ولذلك فهيوم يسمي هذه المجموعة الثالثة من العواطف
بالعواطف غير المباشرة، وهو يحصرها في أربع: الزهو والضعة والحب والكراهية؛
وأخيراً هناك مجموعةٌ رابعةٌ من العواطف هي تلك التي تنشأ في أنفسنا عند تأملنا
للجمال أو القبح الذي يكون في الأفعال أو الأشياء، فهي العواطف التي نحسّها إذ
نستمتع برؤية الجميل وننفر من القبيح ـ ولَئن كانت المجموعة الأولى توصَف بأنها
عواطف أولية لصلتها المباشرة بالغرائز الفطرية كالجوع والجنس، فالمجموعات الثلاث
الأخرى توصَف بأنها عواطفُ ثانوية، لأنها بمثابة التفرعات التي تنبني على تلك
الغرائز لكنها ليست هي نفسها الغرائز.
ويفيض
هيوم في تحليل عواطف الزهو والضعة والحب والكراهية ليحدد الفوارق الدقيقة بينها،
ثم يتناول آخر الأمر موضوعَ المشاركة الوجدانية ليحلّل كيفية انتقال الحالة
الوجدانية من شخصٍ إلى شخص.
جـ:
تحليل الأخلاق:
هذا هو
ثالث أجزاء "الرسالة"، وهو جزء كان هيوم قد أعاد نشرَه في كتابٍ مستقلّ
كما أسلفنا القول في هذا المقال، وموضوع البحث في هذا الجزء هو: على أيّ أساسٍ
نقيم أحكامَنا الخلقيّة؟ أنقيمها على أساس المنطق العقلي، أم نقيمها على أساس
الميول الوجدانيّة؟ هل يكون الحكم على شيءٍ بأنه فضيلةٌ وعلى آخرَ بأنه رذيلة، من
قبيل الحكم على شيءٍ بأنه مثلّث وأن مجموع
زواياه تساوي قائمتين، أعني من قبيل القضايا العلمية البرهانية التي لا يسع كل ذي
عقلٍ منطقيٍّ إلا أن يسلّم بها؟ أو يكون من قبيل تأملنا للشيء الجميل، نختلف في الحكم
على جماله باختلاف أذواقِنا وطرائقِ النشأة التي نشأناها؟
والرأي
في ذلك عند هيوم هو أن الحكم الخلقي قائم على الذوق والعاطفة، لكنه لا بدّ من قيام
العقل بتحليل الموقف الذي نحن بإزائه لكي يتاح لنا الإلمام بعناصره فنقبله أو
نرفضه، أما أن يقال إن الحكم الخلقي قائمٌ على منطق العقل وحدَه، فذلك مردودٌ لأن
المعرفة العقلية الصِرف هي مجرّد إدراك، والإدراك وحده لا يقتضي عملاً، على حين أن
الجانب الخلقي قِوامَه إرادة وعمل، ولذلك كان الأنسب أن نخصّص لفظيّ
"حق" و"باطل" حين نكون بإزاء الأفكار العقليّة، ولفظتيّ
"خير" و"شر" حين نكون بإزاء الحكم على أفعال؛ إن الأحكام
الخلقية تشتمل دائماً على معنى "الوجوب"، فيجب على الإنسان أن يفعل كذا
وألا يفعل كذا، و"الوجوب" لا يجيء أبداً نتيجة مستنبطة مما هو
"واقع"، أي أنه لا يستمد أبداً من أحكام العقل، لأن هذه الأحكام تقرر ما
هو كائن، وإذاً فلا بد أن نلتمس له مصدراً آخر، وهذا المصدر عند هيوم هو حاسّة
يحسّ بها الإنسان إحساسَ الرضا عندما يتأمل فعلاً معيّناً، بحيث لا نستطيع أن نجد
وراء الرضا شيئاً آخر سوى أنه شعورٌ نحسّه، وبهذا القول يرتدّ حكمنا على الأفعال
بأنها "خير" أو بأنها "شر" إلى إحساسات باللذة في الحالة
الأولى وإحساساتٍ بالألم في الحالة الثانية، على أن تكون اللذة والألم في هذه
الحالات من طرازٍ فريد هو الذي يجعلُها لذّة "خُلُقيّةً" أو ألماً
"خلقياً". ومعنى هذا أن "الخير" و"الشر" يصبحان
مقولتين أساسيتين في الطبيعة البشرية، مفطورتين في تلك الطبيعة فطرة الحواس الأخرى
من رؤيةٍ وسمعٍ ولمس.
وهكذا
يبني هيوم مذهبَه الأخرقي على فطرةٍ مجهولةٍ في طبيعة الإنسان، وهي فترةُ الشعور
بالرضا أو بالسخط إزاء أفعالٍ معيّنة، بشريطة أن يقوم العقل بتحليل المواقف التي
نحن بصددها لنتبيّن حقائقها، فينزو فينا ذلك الشعور بالرضا أو بالسخط عن علمٍ
بالحقائق دون أن يكون نتيجةً مستنبطةً منطقياً منها، وقد يحدث أنّ ما يُرْضي هو ما
ينفع، لكن ذلك لا يبرّر لنا أن نقول أن الفضيلة هي في ما ينفع، وفي هذا تفرقةٌ بين
هيوم وبين أنصار مذهب المنفعة في الأخلاق.
3ـ نصوص
مختارة من "رسالة في الطبيعة البشريّة"
1ـ فكرة
النفس:
هنالك فريقٌ من الفلاسفة يتصوّر أننا في كل لحظةٍ نكون على وعيٍ وثيقٍ
بما نسمّيه فينا "نفساً" حتى لَنحسَّ وجودها واستمرارها في ذلك الوجود،
وأننا على يقين يجاوز حدود الأدلّة البرهانيّة ن أن تلك النفس تتصف ببساطة التكوين
وبالذاتية الكاملة في آنٍ معاً، ويزعم هؤلاء الفلاسفة أن أقوى أحاسيسِنا، وأعنف
عواطفِنا، بدل أن يصرف أنظارَنا عن هذا الرأي، يزيدُه رسوخاً وثباتاً، ويجملنا على
أن ننظر إلى تأثيرها على "النفس" بما تحدثه فيها من ألمٍ أو لذّة، وكل
محاولةٍ لإقامة برهانٍ آخر تعدّ إخفاقاً له، ذلك لأنه محالٌ علينا أن نستمدّ
برهاناً من واقعٍ ـ كائنةً ما كانت ـ بحيث نكون منها على وعيٍ يوازي وعيَنا بالنفس
قرباً منا، كلا ولن نجد شيئاً قط نبلغ في إدراكِه مبلغَ اليقين إذا نحن شككنا في
هذا.
غير أن هذه التوكيدات الإيجابية كلّها ـ لسوء الحظ ـ مضادةٌ لتلك
الخبرة نفسها التي يحتكم إليها (أنصار الرأي السابق) برهاناً على صدق ما يقولون،
فليس لدينا أيةُ فكرةٍ عن "النفس" على النحو الذي أسلفنا شرحَه، وإلا
فمن أي انطباعٍ حسّي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ إنه محالٌ علينا أن نجيب عن هذا
السؤال بغي الوقوع في تناقضٍ ظاهر وإحالة، ومع ذلك فهو سؤال لا بدّ من الاجابة
عنه، فلا محيص لنا عن ذلك إذا أردنا أن نجعل فكرةَ النفسِ واضحةً مفهومة، إنه لا
بدّ لكلّ فكرةٍ حقيقيةٍ أن تنشأ عن انطباعٍ حسّي واحدٍ معيّن، لكن النفس أو الذات
الشخصية ليست انطباعاً بذاته من الانطباعات الحسّية، بل هي ذلك الشيء الذي يُفترَض
فيه أنه المرجع الذي تستند إليه انطباعاتُنا وأفكارُنا على اختلافها، ذلك لأنه لو
كانت فكرةُ النفس قد نشأت عن انطباعٍ واحدٍ معيّن، لَلَزِم أن يظلَّ ذلك الانطباع
على حالةٍ دائماً، لا يتغيّر إبّان فترة حياتِنا كلِّها، لأن المفروض في النفس أن
يكون وجودُها قائماً على هذا النحو، لكن ليس هنالك انطباعٌ واحدٌ متَّصِفٌ بالدوام
وعدم التغيّر، فالألم واللذة، والحزن والسرور، والعواطف والإحساسات كلُّها يتبع
بعضُها بعضاً، ويستحيل عليها أبداً أن يتحقَّق لها الوجود كلّها دفعةً واحدة،
وإذاً فلا يمكن لفكرة النفس أن تُستمَدّ من إحدى هذه الانطباعات أو من غيرِها،
وبالتالي فليس هناك فكرةٌ كهذه.
(الرسالة، نشرة سلبى بج، ص 251)
2ـ في الأفكار المجرّدة:
لقد أثيرَ سؤالٌ بالغ الأهمّية عن الأفكار "المجرّدة" أو
"العامة"، أتكون عامةً أم تكون جزئيةً في تصوّر العقل لها؟
ولقد نازع فيلسوفٌ عظيم (يقصد باركلي) الرأيَ التقليدي في هذا الصدد،
وقرّر أن الأفكار العامة إن هي إلا أفكارٌ جزئيةٌ رُبِطَتْ باسمٍ معيّن يخلع عليها
دلالةً أوسع مدى، ويجعلها تستثير ـ إذا ما لزم الأمر ـ أفراداً أخرى شليهةً بها؛
ولما كنتُ أعُدُّ هذا كشفاً من أعظم وأنفس الكشوف التي تمّت إبّان الأعوام الأخيرة
في عالم الآداب، بسأحاول هنا أن أؤيّده ببعض الحجج التي أرجو أنتجاوز لالموضوع كل
حدود الشك والجدل.
فواضحٌ أننا في تكويننا لمعظم أفكارِناالعامّة، إن لم يكن كلّها،
نجرّدها من الكمّ والكيف بجميع درجاتِهما الجزئية، وواضحٌ كذلك أن الشيء (الذي
نشير إليه بالفكرة العامة) لا يُبطِلُ انتماءه إلى نوعٍ معيّن، ما قد يطرأ عليه من
اختلافاتٍ يسيرة في امتدادِه المكاني أو الزماني أو غير ذلك من الخصائص، ولذلك فقد
يقال إن ثمة إشكالاً صريحاً فيما يختص بطبيعة تلك الأفكار المجرّدة التي أثارت كل
هذا الذي أثارته بين الفلاسفة من تأملات نظريّة، فالفكرة المجرّدة عن الإنسان
تمثّل الناس على اختلاف أحجامهم واختلاف صفاتهم، وهو تمثيل لا تستطيع القيام به
إلا بإحدى طريقتين: فإما أن تمثّل دفعةً واحدةً كل ما يمكن تصوّره من أحجام ومن
صفات، وإما ألا تمثل فرداً جزئياً على الإطلاق، أما وقد عُدَّ إحالةً أن نتصدى
لتأييد الافتراض الأول لكونه يقتضي أن يكون العقل ذا قدرةٍ لا نهائية، فقد كانت
النتيجة المستخلَصة غالباً في صالح الافتراض الثاني؛ وبهذا كان الغرض هو أن
أفكارَنا المجرَّدة لا تمثّل كمّاً ولا كيفاً في أية درجة جزئية محدّدة، لكنني
سأحاول أن أبيّن أن هذا الاستدلال خاطئٌ، وذلك ـ أولاً ـ بالبرهنة على أنه يستحيل
استحالةً قاطعةً على إنسانٍ أن يتصوّر كمّاً أو كيفاً دون أن يكوّن لنفسه فكرةً
دقيقةً عن درجة ذلك الكم أو الكيف. ثانياً، بأن أبيّن بأنه وإن تكن قدرةُ العقل
ليست باللانهائية، إلا أنه في وُسعنا أن نكوّن فكرةً عن كل الدرجات الممكنة للكم
وللكيف دفعةً واحدة، على نحو ـ مهما يكن بعيداً عن الكمال ـ إلا أنه على الأقل قد
يحقق كل الأغراض التي نستهدفها بالتفكير وبالنقاش.
(رسالة "في الطبيعة البشريّة"، نشرة سلبي بج، ص 17، 18)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق