الخميس، 28 فبراير 2019

رسالة في الطبيعة البشرية لديفيد هيوم – د. زكي نجيب محمود



رسالة في الطبيعة البشرية لديفيد هيوم – د. زكي نجيب محمود

تراث الانسانية -1963


 وُلِدَ ديفيد هيوم في أدنبرة بأسكتلنده، في السادس والعشرين من أبريل عام 1711 من أسرةٍ وسط بين الفقر والغنى، ومات أبوه وهو لم يزل بعد رضيعاً، ولسنا ندري كيف تلقى ديفيد تعليمه ولا أين. فكل ما يرويه لنا في كتابه "حياتي" لا يزيد على شذرات قليلة لا تكوّن من صورة نشأته إلا جانباً ضئيلاً، وكم كنّا نودُّ أن يُسهِب في ذِكر العوامل التي أثّرت في تكوينه حتى استطاع أن يخرج كتابه الرئيسي "رسالة في الطبيعة البشرية" قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، بل إن فكرته قد اختمرت كلها في عقله، كما يقول، وهو لم يزل طالباً لم يبلغ العشرين، إننا قد نتصوّر أمثال هذا الانتاج المبكر في عالم الفن أو العلوم الرياضية، لأنها أمور قد تجيء بها لمعةٌ من بصيرة موهوبة، أما الفلسفة فالأرجح ألا تتكامل لصاحبها إلا بعد عمر تتهيّأ له فيه فرصةُ التأمل الطويل والدراس المتشعبة والمقارنات الكثيرة.

لكن ليكن من نشأة صاحبنا ما يكون، فحسبنا في هذا المقام أن نعلم أنه في صدر شبابه قد أنتج هذا الكتاب ليذيع به في الناس فلسفةً مبتكرةً غيّرت مجرى الفكر الفلسفي من بعده، وما تزال تغيّره حتى يومنا هذا، ولقد تشبثت به الفكرة الجديدة التي عارض بها مألوفَ الفلسفةِ في عصره، تشبثاً لم يستطع معه أن يزاول عملاً يرتزق منه، فاكتفى بدخله الضئيل، ليحيا حياة الشظف بحيث ينصرف بجهده إلى الدرس والتأمل، وأين يكون ذلك؟ إن فيلسوفنا الشاب لَيرحل عن بلاده قاصداً إلى فرنسا
فرنسا، ثم يلقي رواسيَه في قريةٍ هادئةٍ هي "لافليش" التي عرفت بكلية الجزويت التي كان ديكارت قد تخرّج فيها، وهناك فرغ هيوم من كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية" الذي وصفه عنئذٍ في خطاب منها إلى صديقٍ فقال: "إنه مشروعٌ ضخمٌ وضعتث خطته قبل أن أبلغ الحادية والعشرين، وأنشأته قبل أن أُتِمّ الخامسة والعشرين".


** ديفيد هيوم (1711ـ 1776)

ألّف كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره.

نشر الجزأين الأول والثاني عام 1739، ثم الجزء الثالث بعد ذلك بعام واحد.

كل ما لاقاه كتابه هو عدم المبالاة، في وقت كان ينتظر له أن يهز العالم.

أعاد نشر الكتاب في أجزاء مستقلة، بعد مراجعة الصياغة: الجزء الأول الخاص "بحث في العقل البشري"، الذي لاقى استحساناً. ألحقه بالجزء الثالث بعنوان "بحث في مبادئ الأخلاق" عام 1751. ولاقى ما لاقاه الأول من استحسان، ثم نشر بعض مادة الجزء الثاني، الخاص بالعواطف، في مقالة.

تحليل الإدراك العقلي:

موضوع الجزء الأول من أجزاء "الرسالة" الثلاثة هو المعرفة العقلية التي يحصّلها الإنسان: كيف يحصّلها وما قِوامُها؟

والرأي عند هيوم في ذلك هو أن المصدر الوحيد الذي لا مصدر سواه لمعرفتنا بأسرها، مهما تنوّعت موضوعاتها، هو الحواس بما تنطبع به من انطباعاتٍ مباشرة، كما تنطبع العين ـ مثلاً ـ ببقعة من اللون أو كما تنطبع الأذن بنبرةٍ من الصوت؛ ولا يقتصر الأمر في هذا على الحواس الظاهرة وحدها، بل يُضاف إليها كذلك الحواس الباطنة التي تجعلنا نحسّ ما يجيش في أنفسنا من الداخل من انفعالات؛ حتى إذا ما زال المؤثر المسبِّب لهذه الانطباعات، وبقيت آثارها، كانت هذه الآثار الباقية لدينا هي ما يطلق عليه هيوم اسم "الأفكار"؛ فإذا قلنا ـ إذاً ـ المعرفة كلها عند هيوم تنحلُّ إلى انطباعات حسيّة وأفكار، كنا كمن يقول إن المعرفة ترتدّ كلّها إلى انطباعات حسّية، ما دامت الأفكار هي تلك الانطباعات نفسُها بعد أن غابت مؤثّراتُها الخارجية، وأصبحت صوراً ذهنية أو قل أصبحت ذكريات لما كان قد حدث للحواس حدوثاً مباشراً.

والفرق بين الحالتين ـ حالة الانطباع الحسّي المباشر وحالة الفكرة التي تتخلّف عنه ـ هو فرق في النصوع والوضوح؛ فليس منا من لا يعرف الفرق بين إدراك الحرارة ـ مثلاً ـ ساعة لسعة الجلد بالشيء الحار، وبين إدراكِها عندما نستعيد ذكرى ما قد حدث؛ فالثانية هي صورة من الأولى لكنها محالٌ أن تبلغ مبلغَها في الوضوح؛ فالتفرقة إذاً واضحة بين إحساسي بالشيء حين أكون على صلةٍ مباشرةٍ به وبين صورته أستعيدها في ذهني حين لا يكون الشيءُ نفسه قائماً على مشهدٍ مني أو مسمع أو ملمس، وهيها أن يختلط الأمر على أحدٍ بين هذين الوجهين، فر يدري أهو بصدد انطباعٍ حسّيٍ مباشر أم بصدد فكرة؛ اللهم إلا إذا اختلّ المرء عن مرضٍ أوجنون؛ فعندئذٍ فقط قد تتشابه علينا الحالات فلا ندري أيكون ما ندركُه إحساساً لشيء قائم فعلاً أم تصوراً لفكرةٍ في رؤوسنا بغير أصل خارجي يقابلها لحظةَ الإدراك.

وإذاً ففي مستطاعنا أن نقسم إدراكاتِنا العقلية قسمين، على أن يكون أساسُ القسمةِ هو درجة الوضوح  وقوةُ الأثر؛ وإلا فلو نظرنا إلى تلك الإدراكات من حيثُ طبيعتُها لكانت كلُّها نوعاً واحداً هو ما تنطبع به الحواس؛ فإذا جعلناها قسمين على أساس التفاوت في درجة الوضوح، أطلقنا اسم "الانطباعات" على أكثرها وضوحاً وأقواها أثراً، واسم "الأفكار" على أقلِّها في الوضوح وأضعفها في الأثر، فسمعُك شيئاً أو رؤيتُه أو لمسُه، وكذلك حالاتُك الداخلة من حبٍّ وكراهيةٍ ورغبةٍ وإرادة، تكون "انطباعاتٍ" حين تكون جليّةً واضحةً عميقةَ الأثر أثناء مباشرتِها وممارستها؛ ثم تكون هي نفسُها "أفكاراً" حين تستعيدها في ما بعد باهتة اللونِ خافتةَ الصوتِ ضعيفة الأثر.



وعلى ذلك فلن نجد بين أفكارنا فكرةً واحدةً لا يمكن تعقّبها إلى الانطباع أو الانطباعات التي كنا قد أحسسناها من قبلُ إحساساً مباشراً، نعم يستطيع الفكرُ أن يركّب من حصيلته الحسّية ما شاء من مركّبات تجيء وكأنما هي لا تشبه كائناتِ الواقع في شيء، مما يوهم المتعجل أن للفكر مصادر غير المعطيات الحسّية؛ لكن هذه المركّبات الذهنيّة لو حلّلناها لوجدناها دائماً ترتدّ إلى عناصرَ مما جاءنا عن طريق الحواس بطريقٍ مباشر؛ فقد يصوِّر الإنسان لنفسه ـ مثلاً ـ جبلاً من ذهب، ثم يقول: أين في الدنيا الواقعةِ مثلُ هذا المخلوق الذي خلقتُه بفكري؟

لكنه في الحقيقة لم يصنع سوى أن ركّب كائناً جديداً من أصلين حسّيين هما الجبل والذهب، فقد رأى جبلاً وشهد ذهباً؛ لا بل إنك لتستطيع أن تشطح بخيالك إلى ما هو أبعدُ من ذلك، فتصوّر لنفسك حصاناً يتحلّى بالفضيلة، لكنك ستكون عندئذٍ ما تزال في حدود خبراتك المباشرة، فقد رأيتَ حصاناً بالعين، وشهدت أفعالاً أُطلِقَ عليها اسم الفضيلة، ثم جئت الآن تؤلّف بين الخبرتين.

ومن الشواهد التي تؤيّد القول بأن كل فكرة في رؤوسنا يمكن ردُّها إلى أصولها الحسّية، أنّ من حُرِمَ حاسّةً حُرِم الأفكار التي كان يمكن أن تتركّب من الانطباعات الواقعة على تلك الحاسّة المفقودة؛ فالأعمى لا يعرف ما اللون، والأصمّ لا يعرف ما الصوت، فرُدَّ للأعمى بصرَه وللأصمّ سمعَه تفتح لهما طريقاً جديداً تنساب إليهما منه أفكارٌ لم يكن لهما بها عهد؛ ومن هذا القبيل أيضاً أن تكون الحاسّة المعيّنة سليمةً لكنها لا تقع عل شيءٍ بعينه، كأن تكون أنت سليم البصرِ لكنك لم ترَ الشيء الفلاني، فعندئذٍ لا يصبح ذلك الشيءُ جزءاً من فكرك؛ أو أن تكون سليم الذوقِ لكنك لم تذق طعاماً معيّناً، فعندئذٍ يستحيل عليك تصوّر مذاقه، وهكذا؛ وليس الأمر في هذا مقصوراً على الحواس الظاهرة من بصرٍ وسمعٍ وغيرِها، بل هو كذلك واقعٌ بالنسبة إلى حواسِنا الباطنية التي ندرك بها حالاتنا الوجدانية؛ فمن الناس من لا يعرف كيف تكون العاطفة التي تدفع صاحبَها إلى القسوَة، ومَن طُبِع على الأنانية لا يتصوّر كيف تكون عاطفة الإيثار.

وبناءً على هذا الأساس في تحليل الأفكار وردِّها إلى أصولها الحسّية، يكون لدينا مقياسٌ نقيس به الفكرةَ لنتبيّن عناصرَها ومقوّماتها؛ فماذا لو عثرتَ على فكرة استحال عليك أن تردّها إلى أصولِها الحسيّة؟ إنه لا مفرَّ عندئذٍ من التسليم بأنها لا تعدو أن تكون مجرّد لفظةٍ تُقال دون أن يكون لها "معنى"، أي دون أن يكون لها مقابلٌ من الحقيقة تشير إليه: وإن أمثال هذه الأفكار التي لا ترتدّ إلى أصولٍ حسّية، لَتكثُرُ عند الفلاسفة الميتافيزيقيين؛ فلا يخدعنّك أن تجد الفيلسوف الذي يستخدم أمثال هذه الأفكار المزعومة يعرِّفُها ويحدِّدُها بسلسلة من اللفظ، لأن الانتقال من لفظةٍ لى لفظةٍ دون أن تنتهي بنا السلسلةُ إلى الأصل الحسّي الذي بدأتْ عندهُ، لا يدلُّ إلا على أن المفكّر بغير رصيدٍ من خبرةٍ مباشرة تؤيّد أفكاره، ولا غرابة أن يجيء الفكرُ عندئذٍ غامضاً؛ وإن أيَّ غموضٍ يكتنف أفكارَنا لَينقشعُ إذا ما ردَدنا الفكرةَ إلى أصولِها الحسّية التي هي خبراتُنا المباشرة.

ويلزم عما أسلفناه أن الفكرة في رؤوسِنا إما أن تكون بسيطةً أو مركّبة، والبسيطة هي التي لا يمكن تحليلُها، أعني هي التي تكون صورةً متخلّفة عن انطباعٍ واحدٍ معيّن، كفكرتي ـ مثلاً ـ عن اللون الأصفر.

وأما الفكرةُ المركّبة فهي التي لا يمكن [كذا] (تحليلُها إلى عناصرَ بحيث يكون كل عنصرٍ صورةً بسيطةً متخلّفة عن انطباعٍ حسيٍّ معيّن، كفكرتي عن "البرتقالة" يمكن تحليلها إلى لونٍ وطعمٍ ورائحةٍ وشكلٍ إلخ؛ وما لا يرتدُّ على هذا النحو إلى مراجعِهِ الحسّية المباشرة يكن مجرّد لفظٍ نردده بغير معنى.

لكن هذا القول يسلّمنا إلى مشكلة عويصة، هي: كيف نفهم الألفاظ الكلّية المجرّدة برغم أنها في ذاتها لا تشير إلى انطباعاتٍ جزئيةٍ حسّية معيّنة؟ خذ كلمة "إنسان"، فماذا يرِدُ إلى ذهنك مما تعدّه أصلاً لهذه الكلمة؟

إن من صادفتَهم في حياتِك كلِّها من أفراد الناس مختلِفٌ بعضُهم عن بعض، فلا هم ذوو طول واحد، ولا جنسٍ واحد ولا مجموعةٍ واحدة من العادات السلوكيّة، لكن هؤلاء الأفراد المختلفين هم وحدهم الذين انطبعت بهم حواسُّك انطباعاً مباشراً، فإذا كانت الفكرة ذات المعنى هي التي يمكن ردُّها إلى انطباعاتٍ بعينها، فإلى مَن مِن هؤلاء الأفراد تردّ فكرة "إنسان" في كلّيتها وتجريدها؟ أتردّها إلى فلان ممن صادفوك؟ لكن فلاناً هذا مختلِفٌ عن كل مَنْ عداه من الناس من حيثُ الانطباعاتُ التي جاءت إلى حواسّك عنه، فإذا جاز لك أن تردّ فكرة "إنسان" إلى هذا الفرد من الناس، فكيف يجوز لك بعد هذا أن تردّها هي نفسَها إلى غيره من الأفراد برغم اختلافهم عنه في انطباعاتك الحسّية؟

قد تقول، ولكن أردّ فكرةَ "إنسان" إلى ما هو مشترك بين هؤلاء الأفراد، فلا أردُّها ـ مثلاً ـ إلى لونٍ معيّن أو إلى سلوكٍ معيّن أو إلى طولٍ معيّن، بل أردُّها إلى الصفات التي نجدُها في كلّ فردٍ من الناس؛ ولكن ذلك يهدم المذهب من أساسه، لأنه يقتضينا أن نجاوز حدود الخبرة الحسّية المباشرة، إذ الخبرةُ المباشرةُ لا تقدّم إلينا إنساناً بغير لونٍ وبغير طولٍ حتى يجوز لنا أن نقول إننا نردّ فكرةَ "الإنسان" إلى أصلٍ حسّيٍ مجرد من اللون والطول، فلكيلا نناقض أنفسَنا لا بدّ أن نُرجع فكرة "إنسان" إلى الانطباعات الحسّية كما جاءت؟ وما دامت لم تجئ إلا عن هذا الفرد بعينه أو ذاك الفرد بعينه، فلا مندوحةَ لنا عن أن نجعل الإسم الكلّي المجرّد مشيراً إلى واحدٍ فقط من هؤلاء الأفراد.

وهذا ه ما يفسّر به هيوم الأسماء الكلّية المجرّدة؛ فالإسم من هذه الأسماء إنما يشير إلى صورةٍ ذهنيّة جزئيّة (أو إلى "فكرةٍ" باصطلاح هيوم) على أن تكون هذه الصورة بدورها نسخةً من انطباعٍ حسّي معيّن كنا قد انطبعناه في خبراتنا المباشرة، والانطباع لا يكون بالطبع إلا لمؤثّرٍ جزئيّ بكامل فرديّته، لا تعميم فيه ولا تجريد، فالفكرة المجرّدة "إنسان" ـ كما يقول هيوم ـ تمثّل أفراد الناس الذين صادفناهم، ثم نشير إلى هذا الحد كلّه بكلمة "إنسان" وإما أننا نكتفي بصورةٍ واحدة من تلك الصوَر الكثيرة، صورةٌ واحدةٌ لفردٍ واحدٍ معيّن، فتكون هي المعنى الذي نشير إليه حين نستخدم كلمة "إنسان"، ولما كانت الوسيلة الأولى مستحيلة على العقل الإنساني، فلم يبقَ إلا الوسيلة الثانية، وهي أن نتّخذ أحدَ الأفراد ممثّلاً لبقيتهم.

هكذا يتخلّص هيوم من مشكلة الأسماء الكلّية، بأن جعل كلَّ اسمٍ منها مشيراً إلى صورةٍ جزئيّة واحدة تمثّل جميع أشباهها، وبهذا يمكن ردّ فكرتها إلى أصلها الحسّي الجزئي المفرد؛ وبقي عليه أن يبيّن لنا كيف تلتئم الأفكار البسيطة داخل الرأس بعضها مع بعض بحيث تتكوّن منها الأفكار المركّبة، فكانت وسيلتُه إلى بيان ذلك أن قال إن ترابط الأفكار على هذا النحو يتبع قوانينَ معيّنة، وهي ثلاثة: التشابه، والتجاور في زن الحدوثِ أو في مكانه، ورابطة العّة والمعلول، أي إن الفكرة المعيّنة تستدعي زميلتها إذا كان بينهما تشابه، أو إذا كا نت قد وقعتا في لحظتين من الزمن متتابعتين، أو وقعتا معاً في لحظةٍ واحدة، أو إذا كانتا قد وقعتا في موقعٍ واحدٍ م المكان أو في موضعَين متقاربين، وكذلك تدعو الفكرةُ فكرةً أخرى إذا كانت علّةً لها أو معلولةً لها، فرؤيتُك صورةً تستدعي إلى ذهنك صاحبَ الصورة، لما بين الأصل وصورتِه من تشابه، وذِكْرُك مسكناً يستدعي المسكن الذي يجاوره لما بينهما من تجاورٍ مكانيّ، وتفكيرُك في جرحٍ يستلزم تفكيرَك في الألم الذي يصاحبُه، لما بينهما من علاقة العلّة بلمعلولِها.

العادات الذهنية:

ومن أهم المشكلات التي تعرّض لها هيوم، مشكلة "الهوّية" التي بفضلها نقول عن شيء ما إنه هو هو برغم تعاقب اللحظات وتعاقب الانطباعات الحسّية التي نستقبلها منه، فإذا كان هذا المكتب الذي أمامي يرسل إلى حواسّي لمعاتٍ من الضوء ولمساتٍ من الصلابة تجتمع معاً داخل الرأس لتتكوّن منها فكرةً مركّبة هي ما أسمّيه بكلمة "مكتب"، فلا بدّ لنا من مبدإٍ يفسّر لنا اعتقادنا بدوا وجود شيءٍ معيّن في الخارج، هو الذي يبعث إلى الحواسّ بهذه الرسائل المتعاقبة؛ فعلى أيّ أساسٍ أحكم بأن ذلك الشيء موجودٌ في الخارج مع أن كل ما لديّ عنه هو انطباعات حسّية، ثم على أيِّ أساسٍ أحكم بأن ذلك الشيء نفسَه مستمرٌّ في وجوده حتى ولو خرجت من الفرقة [الغرفة] ولم تعد حواسّي تتأثر بانطباعاته عليها، وأخيراً على أيّ أساسٍ أقول إنه هو هو المكتب نفسه كلما وقع بصري عليه؟

ألا يجوز أن يكون هناك مكتبٌ آخر شبيه كل الشبه بالمكتب الأول، وُضِعَ مكانه أثناء غيابي من الغرفة؟

إن كل هذه الاعتقادات منّي عن المكتب إنما ترتكز على مبدإٍ يجعل وجود المكتبِ مستقلاً عن إدراكي له، ومن ثم فإنني أحكم بوجوده حتى ولو لم أكن أراه ولا ألمسه، ثم أحكم بأنه مكتبٌ واحد، حتى ولو كنت أعاود رؤيته حيناً بعد حين؛ وذلك المبدأ هو مبدأ تكوين العادات عند الإنسان، فلو كان ارتكازنا على الحواس وحدَها لقالت الحواس إنني لا أملك إلا انطباعاتي ولا أدري إن كان هنالك شيءٌ خارج تلك الانطباعات أو لم يكن [؟]، ولو كان مرجعنا هو العقل لقال العقل أن المقدمات التي بين يديّ ـ وهي سلسلة الانطباعات الحسّية ـ لا تنتج بالاستنباط وحدَه نتيجةٌ تقول إن مجموعة الانطباعات المتتابعة تكون في الحقيقة شيئاً واحداً وتأتي كلُّها من مصدرٍ واحد، واحتكامنا إلى العقل لا يضمن لنا أبداً أن يكون الذي نراه الآن ثم نغيب عنه ثم نعود إلى رؤيته لمرةٍ أخرى في يومٍ آخر هو هو نفسه الشيء ذاته لم يتغيّر ـ لكنها العادة التي تتكوّن من رؤيتنا لمجموعة جوانبَ متجاورة أو متتابعة، فعندئذٍ إذا ما رأينا جانباً واحداً فقط ورد إلينا بقية الجوانب بحكم العادة، بحيث تصبح وكأنها متماسكة في شيء واحد؛ هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإن صورتَها وهي متماسكة تكون شديدة الشبه بصورتها حين أدرك الشيء في لحظاتٍ متباعدة، حتى ليدفعني هذا الشبهُ الشديد بين ما رأيته بالأمس وما أراه اليوم إلى القول بأه هوهو الشيء نفسه في الحالتين؛ ولولا "المادة" التي تشد الشبيه إلى شبيهه لرأيت كل حالة وكأنها مبتورةُ الصيلة بأشباهها ولما أتيح لي أن أقول عن الشيء الواحد إنه واحد، ولا أقولُ عنه إنه مستمرٌّ في وجوده شيئاً واحداً.وبهذا التفسير يستغني هيوم عن افتراض وجود "جوهر" وراء أعراض الشيء ليضمن للشيء واحديّته واستمرار وجوده؛ فليس الذي يجعلني أنا شخصياً "واحداً" هو قيام جوهير غيبي خلف ما يبدو للعيان من سلوكي البدني، بل إن هذه الواحدية ترتدّ إلى كون الظواهر التي بدتْ مني يرتبط بعضُها ببعضٍ ارتباطاً يكوّن عند الرائي "عادة" مؤداها أن يتوقّع كذا وكذا لو وقع بصرُه منّي على السلوك الفلاني؛ وكذلك الذي يضمن أن أكون كائناً مستمرَّ الوجود بهوّية واحدة هو التشابه الشديد بين النمط السلوكي الظاهر في لحاتٍ مختلفة، وشدة الشبه كفيلةٌ أن تدمج الأشباه في الخيال دمجاً يجعلها كأنها كائنٌ واحدٌ مستمرّ.

ونلخّص ما أسلفناه لنمضيَ في الحديث، فنقول إنه لا أساس لمعرفتنا كلِّها إلا الانطباعات الحسّية، تلتئم وترتبط داخل رؤوسِنا وِفق مبادئِ ترابطِ المعاني وتداعيها فتكوّن الأفكار المركّبة التي في رؤوسنا؛ وتعوُّدُنا رؤيةَ مجموعةٍ معيّنة منها متلازمةٍ دائماً، هو الذي يميل بنا إلى القول بأن لهذه المجموعة مصدراً واحداً مستمرّاً ذا هوّية معلومة ـ ونمضي في الحديث فنقول إن عملية التفكير بعدئذٍ إما أن يكون قِوامُها ربط فكرةٍ بفكرةٍ تقتضيها، وإما أن يكون قِوامُها ربطَ فكرةٍ بأصلها الخارجي؛ أو بعبارةٍ أخرى عملية التفكير إما أن تكون رياضيّة استنباطية نستولد فيها فكرةً من فكرة، وإما أن تكون متعلّقةً بأمور للواقع كما هي الحال في العلوم الطبيعية؛ فأما الصنف الأول فنظريّ صِرف ويقينيُّ النتائج ما دامت مستنبَطةً استنباطاً صحيحاً من مقدّماتها، كأن تقول مثلاً إن أربعةً مضروبة في خمسةٍ تنتج عشرين، وإن مجموع زوايا المثلّث تساوي قائمتين، ففي حالاتٍ كهذه لا نريد إلا أن تكون النتيجة متسقةً مع مقدّماتها، وما دامت المقدّمات صحيحةً فلا بد أن تكون النتائجُ صحيحة.

وأما الصنف الثاني الذي نطابق فيه بين أفكارِنا من جهةٍ والواقع من جهةٍ أخرى فلا يقينَ فيه، لأن أيَّ شيءٍ أقولُه عن أمور الواقع يجوز أن يكون نقيضُه هو الصحيح؛ فإذا قلت عن ورقةٍ إنها بيضاء، فما الذي كان يمنع عند العقل أن تكون لوناً آخر لولا التربة التي دلّتني على لونٍ معيّن دون سواه؛ وإذا قلت عن الشمس إنها ستشرقُ غداً كما أشرقت قبل ذلك ملايين المرات، فإنما أقول ذلك على سبيل الترجيح، وإلا فما الذي يمنع عند العقل ألا تشرقَ شمسٌ بعد اليوم؟



وهكذا ترى الفرق بعيداً بين التفكير العقلي الخالص الذي يولّد فكرةً من فكرةٍ أخرى تحتويها، والتفكير المرتكز على الخبرة الحسّية.

وإذاً، فالخبرةُ الحسّية وحدها ـ لا التفكير العقلي الخالص ـ هو المصدر الذي نستقي منه علمَنا بالواقع، ويستحيل علينا بغير تلك الخبرةِ أن نتوقّع ما عساه أن يحدث من حوادث عالم الواقع، وإلا فكيف يمكن لإنسانٍ بعقلِه البحت وبغير خبرةٍ حسّية سابقة أن يعلم عن دويّ البارود إذا ما تفجّر، أو عن جذب المادة الممغطسة للمعادن؛ إلا أن ثمّة من خصائص الوقائع الطبيعية ما يخيَّل إلينا أننا مدركوه بغير خبرةٍ حسّية، كالعلاقات السببيّة بين الأشياء، فقد يُقال إننا بالعقل وحدَه ودون استناد إلى خبرةٍ حسّية سابقة نستطيع القول ـ مثلاً ـ إن كرةً من كراتِ البلياردو لو تحرّكت وصدمت كرةً أخرى لحرّكَتْها، لكن الأمر في حقيقته هو أن العلاقة السببية إنما تتكوّن عندنا بحكمِ عادةٍ تنشأ لدينا من إطراد الارتباط بين الحادثة الأولى والحادثة الثانية إطراداً يجعلُنا إذا ما وقعت الحادثة الأولى نتوقّع حدوث الثانية، ودون أن تكون هنالك ضرورةٌ عقليّةٌ تقتضي ذلك، فالعقل البحت وحده لا يستطيع أن يحكم بقوّة المنطق الصِرف أن حادثةً ما كانت مسبوقةً بكذا أو أنها ستلحق بكذا، إنما هي التجربة وحدها التي تدلّنا على ذلك، فالحادثة التي هي سبب مستقلّةٌ عن الحادثةِ التي هي مسبَّبٌ، وتحليل إحداهُما لا يدلّ على الأخرى، فحركة الكرة الثانية من كرتيّ البلياردو حادثٌ قائم بذاته بالنسبة إلى حركة الكرةِ الأولى، وليس في أيٍّ من الحركتين أقلُّ علامةٍ تشير إلى ضرورةِ وجود الأخرى، فاقذف بحجرٍ في الهواء واتركهُ غير مستندٍ إلى شيء، يسقط على الأرض من فورِه، لكن لا بدّ من خبرةٍ حسّية سابقة لأعلمَ منها هذا التتابع بين الحادثين، وإلا فليس في وسع العقل البحت وحده أن يحتّم بأن سقوط الحجر إلى الأرض متضمَّن الضرورة في كون الحجر موجوداً في الهواء، وليس في حكم العقل ما يمنع أن يستمرَّ الحجرُ في صعوده إلى أعلى بدل سقوطه إلى أسفل، أو ما يمنع أن يتحرّك الحجر إثر رميه في الهواء نحو اليمين أو نحو اليسار، وما دام العقل لا ينفي أن يتحرّك الحجرُ في أيّ اتجاه، إذاً، فالخبرة هي مصدرُنا في العلم بأن الاتجاه الفعلي للحجر ـ بين الممكنات الكثيرة ـ هو الاتجاه إلى أسفل.

إنني إذا شهدتُ كرةً من كراتِ البلياردو متحرّكةً في اتجاه كرةٍ أخرى ساكنة، فهل يقضي العقلُ المجرّد بضرورةِ أن تتحرّك الكرةُ الأخرى إذا ما مسّتها الأولى؟ ألا يمكن عقلاً تصوّرُ أن تسكن الكرتان معاً؟ ألا يمكن عقلاً أن تصدمَ الكرةُ المتحرّكة الساكنةَ وبدل أن تحرّكها تعود هي مرتدّةً أو تقفز فوقها ثم تسيرُ بعد ذلك في أيّ اتجاه؟ هذه كلّها ممكناتٌ لا يرفضها العقل الخالص، والخبرة السابقةُ وحدها هي التي تدلّنا أيَّها هو الذي يحدث بالفعل.

تحليل العواطف:

يستخدِم هيوم لفظ "العواطف" ليدلَّ به على شتى صنوف الغرائز والدوافع النفسية والميول والرغبات والانفعالات بالإضافة إلى ما نصطلح اليوم على تسميتِه بالعواطف كالحب والكراهية، إلا أن هيوم برغم هذه السعة في معنى "العواطف فهو لا يريد للقظ أن يشمل الشعور باللذة والشعور بالألم، لأنه يجعل هذين ضمن الانطباعات الحسّية (أي في الجانب الإدراكي لا في الجانب الوجداني).

والعواطف، بالمعنى المقصود عند هيوم تنقسم أنواعاً، فمنها الشهوات الفطرية التي ينشأ عنها كثير من أنواع الاستمتاع، كالشهوة إلى الطعام وإلى الجنس مما لا ينبني على خبرات سابقة، وتلك هي العواطف الأوّلية؛ يليها مجموعةٌ أخرى من العواطف تشترك مع المجموعة السابقة في أنها مؤسسة على الطبيعة البشرية، لكنها تعود فتختلف عنها في كونها تستند أيضاً إلى خبراتٍ سابقة بمصادرِ اللذة والألم؛ مثال ذلك رغبتُنا في لونٍ بعينه من الطعام، فها هنا نجد شهوة الطعام الفطرية مضافاً إليها خبرةٌ سابقة بهذا الطعام العيّن المرغوب فيه الآن؛ وتلى هذه المجموعة الثانية من العواطف مجموعةٌ ثالثة تكون فيها استثارة الخبرة الماضية مصحوبةً بأفكارٍ أخرى لا تتصل بالشيء المشتهى صلةً مباشرة، ولذلك فهيوم يسمي هذه المجموعة الثالثة من العواطف بالعواطف غير المباشرة، وهو يحصرها في أربع: الزهو والضعة والحب والكراهية؛ وأخيراً هناك مجموعةٌ رابعةٌ من العواطف هي تلك التي تنشأ في أنفسنا عند تأملنا للجمال أو القبح الذي يكون في الأفعال أو الأشياء، فهي العواطف التي نحسّها إذ نستمتع برؤية الجميل وننفر من القبيح ـ ولَئن كانت المجموعة الأولى توصَف بأنها عواطف أولية لصلتها المباشرة بالغرائز الفطرية كالجوع والجنس، فالمجموعات الثلاث الأخرى توصَف بأنها عواطفُ ثانوية، لأنها بمثابة التفرعات التي تنبني على تلك الغرائز لكنها ليست هي نفسها الغرائز.

ويفيض هيوم في تحليل عواطف الزهو والضعة والحب والكراهية ليحدد الفوارق الدقيقة بينها، ثم يتناول آخر الأمر موضوعَ المشاركة الوجدانية ليحلّل كيفية انتقال الحالة الوجدانية من شخصٍ إلى شخص.

جـ: تحليل الأخلاق:

هذا هو ثالث أجزاء "الرسالة"، وهو جزء كان هيوم قد أعاد نشرَه في كتابٍ مستقلّ كما أسلفنا القول في هذا المقال، وموضوع البحث في هذا الجزء هو: على أيّ أساسٍ نقيم أحكامَنا الخلقيّة؟ أنقيمها على أساس المنطق العقلي، أم نقيمها على أساس الميول الوجدانيّة؟ هل يكون الحكم على شيءٍ بأنه فضيلةٌ وعلى آخرَ بأنه رذيلة، من قبيل الحكم على شيءٍ  بأنه مثلّث وأن مجموع زواياه تساوي قائمتين، أعني من قبيل القضايا العلمية البرهانية التي لا يسع كل ذي عقلٍ منطقيٍّ إلا أن يسلّم بها؟ أو يكون من قبيل تأملنا للشيء الجميل، نختلف في الحكم على جماله باختلاف أذواقِنا وطرائقِ النشأة التي نشأناها؟

والرأي في ذلك عند هيوم هو أن الحكم الخلقي قائم على الذوق والعاطفة، لكنه لا بدّ من قيام العقل بتحليل الموقف الذي نحن بإزائه لكي يتاح لنا الإلمام بعناصره فنقبله أو نرفضه، أما أن يقال إن الحكم الخلقي قائمٌ على منطق العقل وحدَه، فذلك مردودٌ لأن المعرفة العقلية الصِرف هي مجرّد إدراك، والإدراك وحده لا يقتضي عملاً، على حين أن الجانب الخلقي قِوامَه إرادة وعمل، ولذلك كان الأنسب أن نخصّص لفظيّ "حق" و"باطل" حين نكون بإزاء الأفكار العقليّة، ولفظتيّ "خير" و"شر" حين نكون بإزاء الحكم على أفعال؛ إن الأحكام الخلقية تشتمل دائماً على معنى "الوجوب"، فيجب على الإنسان أن يفعل كذا وألا يفعل كذا، و"الوجوب" لا يجيء أبداً نتيجة مستنبطة مما هو "واقع"، أي أنه لا يستمد أبداً من أحكام العقل، لأن هذه الأحكام تقرر ما هو كائن، وإذاً فلا بد أن نلتمس له مصدراً آخر، وهذا المصدر عند هيوم هو حاسّة يحسّ بها الإنسان إحساسَ الرضا عندما يتأمل فعلاً معيّناً، بحيث لا نستطيع أن نجد وراء الرضا شيئاً آخر سوى أنه شعورٌ نحسّه، وبهذا القول يرتدّ حكمنا على الأفعال بأنها "خير" أو بأنها "شر" إلى إحساسات باللذة في الحالة الأولى وإحساساتٍ بالألم في الحالة الثانية، على أن تكون اللذة والألم في هذه الحالات من طرازٍ فريد هو الذي يجعلُها لذّة "خُلُقيّةً" أو ألماً "خلقياً". ومعنى هذا أن "الخير" و"الشر" يصبحان مقولتين أساسيتين في الطبيعة البشرية، مفطورتين في تلك الطبيعة فطرة الحواس الأخرى من رؤيةٍ وسمعٍ ولمس.

وهكذا يبني هيوم مذهبَه الأخرقي على فطرةٍ مجهولةٍ في طبيعة الإنسان، وهي فترةُ الشعور بالرضا أو بالسخط إزاء أفعالٍ معيّنة، بشريطة أن يقوم العقل بتحليل المواقف التي نحن بصددها لنتبيّن حقائقها، فينزو فينا ذلك الشعور بالرضا أو بالسخط عن علمٍ بالحقائق دون أن يكون نتيجةً مستنبطةً منطقياً منها، وقد يحدث أنّ ما يُرْضي هو ما ينفع، لكن ذلك لا يبرّر لنا أن نقول أن الفضيلة هي في ما ينفع، وفي هذا تفرقةٌ بين هيوم وبين أنصار مذهب المنفعة في الأخلاق.



3ـ نصوص مختارة من "رسالة في الطبيعة البشريّة"

1ـ فكرة النفس:

هنالك فريقٌ من الفلاسفة يتصوّر أننا في كل لحظةٍ نكون على وعيٍ وثيقٍ بما نسمّيه فينا "نفساً" حتى لَنحسَّ وجودها واستمرارها في ذلك الوجود، وأننا على يقين يجاوز حدود الأدلّة البرهانيّة ن أن تلك النفس تتصف ببساطة التكوين وبالذاتية الكاملة في آنٍ معاً، ويزعم هؤلاء الفلاسفة أن أقوى أحاسيسِنا، وأعنف عواطفِنا، بدل أن يصرف أنظارَنا عن هذا الرأي، يزيدُه رسوخاً وثباتاً، ويجملنا على أن ننظر إلى تأثيرها على "النفس" بما تحدثه فيها من ألمٍ أو لذّة، وكل محاولةٍ لإقامة برهانٍ آخر تعدّ إخفاقاً له، ذلك لأنه محالٌ علينا أن نستمدّ برهاناً من واقعٍ ـ كائنةً ما كانت ـ بحيث نكون منها على وعيٍ يوازي وعيَنا بالنفس قرباً منا، كلا ولن نجد شيئاً قط نبلغ في إدراكِه مبلغَ اليقين إذا نحن شككنا في هذا.

غير أن هذه التوكيدات الإيجابية كلّها ـ لسوء الحظ ـ مضادةٌ لتلك الخبرة نفسها التي يحتكم إليها (أنصار الرأي السابق) برهاناً على صدق ما يقولون، فليس لدينا أيةُ فكرةٍ عن "النفس" على النحو الذي أسلفنا شرحَه، وإلا فمن أي انطباعٍ حسّي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ إنه محالٌ علينا أن نجيب عن هذا السؤال بغي الوقوع في تناقضٍ ظاهر وإحالة، ومع ذلك فهو سؤال لا بدّ من الاجابة عنه، فلا محيص لنا عن ذلك إذا أردنا أن نجعل فكرةَ النفسِ واضحةً مفهومة، إنه لا بدّ لكلّ فكرةٍ حقيقيةٍ أن تنشأ عن انطباعٍ حسّي واحدٍ معيّن، لكن النفس أو الذات الشخصية ليست انطباعاً بذاته من الانطباعات الحسّية، بل هي ذلك الشيء الذي يُفترَض فيه أنه المرجع الذي تستند إليه انطباعاتُنا وأفكارُنا على اختلافها، ذلك لأنه لو كانت فكرةُ النفس قد نشأت عن انطباعٍ واحدٍ معيّن، لَلَزِم أن يظلَّ ذلك الانطباع على حالةٍ دائماً، لا يتغيّر إبّان فترة حياتِنا كلِّها، لأن المفروض في النفس أن يكون وجودُها قائماً على هذا النحو، لكن ليس هنالك انطباعٌ واحدٌ متَّصِفٌ بالدوام وعدم التغيّر، فالألم واللذة، والحزن والسرور، والعواطف والإحساسات كلُّها يتبع بعضُها بعضاً، ويستحيل عليها أبداً أن يتحقَّق لها الوجود كلّها دفعةً واحدة، وإذاً فلا يمكن لفكرة النفس أن تُستمَدّ من إحدى هذه الانطباعات أو من غيرِها، وبالتالي فليس هناك فكرةٌ كهذه.

(الرسالة، نشرة سلبى بج، ص 251)



2ـ في الأفكار المجرّدة:

لقد أثيرَ سؤالٌ بالغ الأهمّية عن الأفكار "المجرّدة" أو "العامة"، أتكون عامةً أم تكون جزئيةً في تصوّر العقل لها؟

ولقد نازع فيلسوفٌ عظيم (يقصد باركلي) الرأيَ التقليدي في هذا الصدد، وقرّر أن الأفكار العامة إن هي إلا أفكارٌ جزئيةٌ رُبِطَتْ باسمٍ معيّن يخلع عليها دلالةً أوسع مدى، ويجعلها تستثير ـ إذا ما لزم الأمر ـ أفراداً أخرى شبيهةً بها؛ ولما كنتُ أعُدُّ هذا كشفاً من أعظم وأنفس الكشوف التي تمّت إبّان الأعوام الأخيرة في عالم الآداب، سأحاول هنا أن أؤيّده ببعض الحجج التي أرجو أن تجاوز الموضوع لكل حدود الشك والجدل.

فواضحٌ أننا في تكويننا لمعظم أفكارِنا العامّة، إن لم يكن كلّها، نجرّدها من الكمّ والكيف بجميع درجاتِهما الجزئية، وواضحٌ كذلك أن الشيء (الذي نشير إليه بالفكرة العامة) لا يُبطِلُ انتماءه إلى نوعٍ معيّن، ما قد يطرأ عليه من اختلافاتٍ يسيرة في امتدادِه المكاني أو الزماني أو غير ذلك من الخصائص، ولذلك فقد يقال إن ثمة إشكالاً صريحاً فيما يختص بطبيعة تلك الأفكار المجرّدة التي أثارت كل هذا الذي أثارته بين الفلاسفة من تأملات نظريّة، فالفكرة المجرّدة عن الإنسان تمثّل الناس على اختلاف أحجامهم واختلاف صفاتهم، وهو تمثيل لا تستطيع القيام به إلا بإحدى طريقتين: فإما أن تمثّل دفعةً واحدةً كل ما يمكن تصوّره من أحجام ومن صفات، وإما ألا تمثل فرداً جزئياً على الإطلاق، أما وقد عُدَّ إحالةً أن نتصدى لتأييد الافتراض الأول لكونه يقتضي أن يكون العقل ذا قدرةٍ لا نهائية، فقد كانت النتيجة المستخلَصة غالباً في صالح الافتراض الثاني؛ وبهذا كان الغرض هو أن أفكارَنا المجرَّدة لا تمثّل كمّاً ولا كيفاً في أية درجة جزئية محدّدة، لكنني سأحاول أن أبيّن أن هذا الاستدلال خاطئٌ، وذلك ـ أولاً ـ بالبرهنة على أنه يستحيل استحالةً قاطعةً على إنسانٍ أن يتصوّر كمّاً أو كيفاً دون أن يكوّن لنفسه فكرةً دقيقةً عن درجة ذلك الكم أو الكيف. ثانياً، بأن أبيّن بأنه وإن تكن قدرةُ العقل ليست باللانهائية، إلا أنه في وُسعنا أن نكوّن فكرةً عن كل الدرجات الممكنة للكم وللكيف دفعةً واحدة، على نحو ـ مهما يكن بعيداً عن الكمال ـ إلا أنه على الأقل قد يحقق كل الأغراض التي نستهدفها بالتفكير وبالنقاش.

(رسالة "في الطبيعة البشريّة"، نشرة سلبي بج، ص 17، 18)                   

أديان العرب؛ جواد علي. (عن "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام")





وللعرب قبل الإسلام مثل سائرالشعوب الأخرى تعبدوا الالهة، وفكروا في وجود قوى عليا لها عليهم حكم وسلطان، فحاولوا كما حاول غيرهم التقرب منها ولسترضاءها بمختلف الوسائل والطرق، ووضعوا لها اسماء وصفات.، وخاطبوها بألسنتهم وبقلوبهم، سلكوا في ذلك جملة مسالك، هي ما نسميها في لغاتنا بالأديان.
وتقابل كلمة "دين" العربية لفظة religion في الانكليزية من أصل لاتيني هو religere أو religare وآراء العلماء المعنيين بتاريخ الأديان وفلسفتها على اختلاف كبير جداً في وضع حد علمي مقبول بين الجميع لموضوع الدين، وربما لا يوجد موضوع في العالم أختلفت في تحديده الآراء كهذا الموضوع: موضوع ماهية الدين وتعريفه، حتى صار من المستحيل وضع إطار يتفق عليه لصورة يحمع على أنها تمثل الدين. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله كاتب، هو أن يكتب رأيه بوضوح فيما يعنيه من "الدين"، فلذا فعل ذلك، صار من المعروف ما قصد صاحبه منه.
وقد عرّف بعض العلماء الدين أنه إيمان بكائنات روحية تكون فوق الطبيعة والبشر،يكون لها أثر في حياة هذا الكون. وعرفه آخرون أنه أستمآلة وأسترضاء لقوى هي فوق البشر، يؤمن أنها تدير وتدبر سير الطبيعة وسير حياة الإنسان. وهو عند بعض آخر شعور وتفكير عند فرد أو جماعة بوجود كائن أو كائنات إلهية، والصلة التي تكون بين هذا الفرد أو تلك الجماعة وبين الكائن أو الكائنات الإلهية. وهو يطاق بهذا الآعتبار على الإسلام كما يطلق على اليهودية والنصرانية وعلى المجوسية وعلى غيرها من أديان سواء أكانت سماوية أم غير سماوية كما يصطلح على ذلك بعض العلماء.
وهناك تعريفات وحدود كثيرة أخرى للدين نشأت من اختلاف أنظار الباحثين بالقياس إلى مفهوم الدين. فهناك مسائل كثيرة مختلف فيها: هل تدخل في نطاق حدود الدين أو لا كما ان مفهومه قد تغير عند الغربيين باختلاف العصور. وليس من السهل وضع حدود معينة لمعنى الدين، فإن وجهات نظر الأديان نفسها تختلف في هذا الباب. وللدين في نظر الشعوب البدائية مفهوم يختلف كل الاختلاف عن مفهوم الدين عند غيرهم، ومفهومه في نظر الأقوام المتقدمة يختلف باختلاف دينها وباختلاف وجهة نظرها إلى الحياة. وهناك أمور تدخل في حدود الدين عند بعض أهل الأديان، على حين انها من الأمور الأخلاقية أو من أمور الدولة في نظر بعض آخر، ومن هنا تظهر الصعوبات في تعيين المسائل التي تعدّ من صلب الدين في نظر الجميع.
وللدين مهما قيل في تعريفه، شعائر تظهر على أهله، فتميزهم عن أتباع الديانات الأخرى،كما في العبادات والمأكولات والمعابد واللغات وما شاكل ذلك، ولهذه الأمور أثر بالطبع في النواحي الاجتماعية والثقافية، إذ تطبع أتباع الدين بطابع مميز خاص.
وقد زعم بعض المستشرقبن ان لفظة "الدين" من أصل أعجمي، وأنها من الألفاظ المعربة، أصلها فارسي هو "دَينا" Daena. وقد دخلت في العربية قبل الإسلام بمدة طويلة. وترد لفظة "دين" بمعنى الحشر في الإرمية والعبرانية كذلك. وهي "دينو" في الإرمية. وتقابل لفظةDaino الإرمية لفظة الديان في العربية. وهي بمعنى القاضي في هذه اللغة. وتعني لفظة "دين" القضاء في اللغة البابلية. و "ديان" "ديونو" Dayono، الحاكم والمجازي والقاضي في لغة بني ارم. وهي بهذا المعنى في العربيه أيضاً.
والدين في تعريف علماء اللغة: العادة و الشأن. تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني، أي عادتي. والدين بمعنى الطاعة والتعبد.. قد ورد قي الحديث: "كان على دين قومه"، أي كان على ما بقي فيهم من إرث ابراهيم، من الحج والنكاح والميراث، وغير ذلك من أحكام الايمان. وجاء: "كانت قريش ومن دان بدينهم،أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه،واتخذ دينهم له ديناً وعبادة". ومن "دبن" الدياّن، بمعنى الحكم القاضي والقهار. ومن ذلك مخاطبة "الأعشى الحرمازي" الرسول بقوله: يا سيد الناس وديّان العرب.
والديان: الله، ومن أسماء الله.
وقد وردت هذه اللفظة في المعنى المفهوم منها في الإسلام في بيت شعر ينسب الى أميّة بن أبي الصلت.هو: كلّ دين يوم القيامة عند الل  ه إلاً دين إلحنـيفة زور.
غير أننا لا نستطيع أن نحكم بورودها في شعر أمية ما لم نثبت أن ذلك للشعر هو من شعره حقاًً، وأنه ليس بشعر إسلامي صنع ووضع على لسانه، فقد وضعت أشعار وقصائد على لسانه وعلى لسان غيره من للشعراء.
ووردت بهذا المعنى أيضاً في النصوص الثمودية. وردت في نص سجله رجل من قوم ثمود، توسل فيه إلى الاله "ودّ"، أن يحفظ له دينه، "ال ه دي ن ي ق.ي د"، ووردت في نص آخر جاء فيه: "بدين ود امت"، أي "بدين ودّ أموت"، أو "على دينُ ود أموت" فاللفظة إذن من الألفاظ اللعربية الواردة في النصوص الثمودية، وقد يعثر عليها في نصوص جاهلية مدوّنة يلهجات عريية أخرى.
ويصنف بعض العلماء،الأديان، إلى صنفين:أديان بدائية Primitive Religions، وأديان عليا The Higher Religions، غير لن هذا التقسيم لا يستند إلى التسلسل الزماني، وإنما يقوم على أساس دراسة أحكلم الدين وعقائده وعمق أفكاره. فالأديان التي تقوم على افكار بدائية وعلىاللسحر Magic وعلى المبالغة في التقديس وتقديم القرابين Sacred،والتي تنحصر عبادتها بأفراد قرية أو قبيلة واحدة، وأمثاله ذلك مما يشرحه علماء تأريخ الأديان وعلماء فلسفة الأديان، هي من أديان الصنف الأول. فإذا توسع مجال الدين وشمل قبائل عديدة، وتعمق في احكامه وفي تشريعه وفلسفته، وصار الإله أو الآلهة الها ذا سلطان واسع أو آلهة ذات سلطان ولسع عد" الدين من الأديان العليا.
وأما تقسيم الأديان إلى أديان قبيلية Tribal Religions و"أديان قومية" National Religions "وأديان مطلقة عامة" "Absolute Religions" "Universal Religions" فانه، وأن كان تقسيماً واضحاً ظاهراً بالقياس الى الطرق الاخرى لتقسيم الأديان، يرد عليه أنه تقسيم بني على أسس وحدود ليست لها أرض صلبة فى جوهر الدين وأركانه، فهو بعيد عن المبادىء الأساسية التي تجب مراعاتها في تقسيم كل علم أو موضوع. كذلك تجابه للتقسيم الثلاثي للأديان إلى أديان "الطبيعة" Nature Religion. و "ديانة الشريعة" Geztzes Religion، و "ديانة الخلاص" Erlosungs Religion عند بعض العلماء الألمان صعوبات كبيرة تجعل السير على أساسه في درلسة تطور الدين أمرأ عسيرا شاقاً.
وتستند دراسات علماء تاريخ الأديان لتطور الأديان والأدوار التي مرت بها إلى درلسة أمور كثيرة تاريخية ونفسية واجتماعية واقتصادية،ولهم في ذلك جملة طرق، منها طربقة الدرلسات آلمقارنة The comparative Method، وهي تعتمد كما يتين من أسمها على المقارنات بين الأديان، فتتناول جميع النواحي بالبحث، لتجد ما بينها من مطابقات وّمفارقات. ومنها طرق البحث التأريخي والاجتماعي Historical and Sociological Methods وتستند إلى الدراسات للتأريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية وللعوامل الأخرى، للناس وللمنطقة للتي عاشوا فيها، وأثر كل هذه العوامل في نمو الافكار الدينية وظهورها، وطرق عديدة أخرى تذكر في كتب تواريخ الأديان.
وقد تقدمت دراسة تأريخ الأديان تقدما كبيراً، ولا سيما بعد اتساع أساليب الطرق التجريبيهّ والبحوث المقارنة والتحليل النفسي في هذه الدراسة. وظهر بحث جديد شائق طريف، هو "فلسفهّ الدين" The Philosophy of Religion أفاد كثيراً في معرفة دراسة تطور الأديان ومبادئها الأساسية، كما ظهرت فروع أخرى كهذا الفرع لها صلة بدراسة الدين وتقدمه، كالفرع النفسي الذي يعتمد على الدرلسات النفسية للدين، وهو فرع نستطيع أن نسميه ب "علم النفس الديني" The Psychology of Religion في الانكليزية و Religionspsycologic في الألمانية. وكالفرع الذي يعتمد على أساليب بحث الاجتمآع وطرقه لدراسة الدين باعتبار أن الدين نفسه ظاهرة من ظواهر الحياهّ الاجتماعية.
وهناك عوامل عديدة لها أثرها في تطور الأديان، وفي "تكييفها"، منها أثر العوامل "الطبغرافية" Topographic Factors و أثر "المحيط" Climatic Factor وأثر الحالات النفسية في تكييف الدين، وفي تصور الناس لآالهتهم. ولهذا تصور اليونان مثلا آلهتهم على شاكلتهم،. تصوروها ذات أخلاق وصفات تشبه أخلاق البشر وصفاتهم، تتخاصم وتتصادق وتتباغض ويحسد بعضها بعضاً، تشرب الخمر وتحزن وتفرح، وتسرق أيضاً. ونجد في ال "ايدا" Edda نفسية الشعوب الشمالية الأوروبية ممثلة في الأساطير التي تتحدث عن الآلهة والأبطال.
ويظهر أثر العوامل المذكورة في الديانة الهندية القديمة، وهي من الديانات الآرية، وفي الديانة المجوسية، وهي من أهل السهول وديانات أهل الجبال، وبين ديانات الساميين الشماليين وديانات الساميين الجنويين، يظهر في الأساطبر "Mythology"وفي تصور آلالهة وتقديمها وتاخيرها وما شابه ذلك من أمور.
ولشكل المجتمع أثره كذلك في تطوير الدين وفي أحكامه. فمجتع يقوم على الزراعة يختلف في تفكيره عن مجتمع يعيش على الصناعة أو على الرعي في بوادٍ واسعة، كذلك للسياسة ولأشكال المجتمعات السياسية دخل في تطور الأديان. وقد كان التعاون وثيقاً جداً في الأيام الماضية خاصة بين السلطات الزمنية وبين السلطات الدينية حتى كان الحكام الزمنيون كهاناً في كثير من الأوقات، كما حدث أن وقع اختلاف بين اللسلطتين أدى إلى حدوث تغيبر في عقيدة الحكومة أو أكثرية الشعب.
وطالما أدى قهر مدينة أو قبيلة أو شعب إلى قهر آلهتها معها وموتها، والى عبادة آلهة القاهرين المتغلبين باعتبار أنها أقوى وأعظم شأناً من آلهة المغلوبن التي لم تتمكن من حمايتهم من تعديات الغالبين. وقد تبقى تلك الآلهة فتندمج في آلهة المغيرين، فيزداد بذلك العدد، وتتعدد الالهة، وتختلط الأساطير بعضها ببعض وتتداخل. ولهذه الناحية أهمية كبيرة في تحليل عناصر هذه الأساطير، ورجعها إلى منابعها الأولى. كذلك يكون للجوار وللصلات التأريخية والروابط الثقافية أئر في ديانات الشعوب وفي "تكييفها" ويكون للثقافة خاصة آثر بارز في هذا التوجيه. غير أن للاديان كذلك أثرها في توجيه الأفراد والقبائل والشعوب، وفيما ينتج عن عمل الإنسان من مجتمعات وسياسة وثقافة واقتصاد. فهذه نواحٍ يجب أن تلاحظ كلّها في دراستنا لتأريخ الأديان. هذا ويجب ألاّ نتصور أن أديان العرب قبل الإسلام لم تتأثر بمؤثرات خارجية. فلم تأخذ من الأمم والشعوب التي اتصلت بها شيئاً، جرياً على نظرية القائلين بعزلة العرب وبعدم اتصالهم بالخارج، وبانهم بدو، لا علم لهم ولا رأي ولا دين. وهي نظرية نشأت عن عدم وقوف القائلين بها بأحوال العرب قبل الإسلام. وإذا وافق أولئك على أن اليهودية والنصرانية كانتا في جزيرة العرب قبل الإسلام كما نص على ذلك القرآن الكريم، وأن من العرب من نهان على دين يهود، وأن منهم من كان على دين النصارى، فلن يستطيعوا إنكار ورود اليهودية والنصرانية إلى العرب من الخارج بعمل الهجرة والتبشير والاتصال بفلسطين والعراق. وسيوافقون أيضاً على أن الوثنيين قد تأثروا كذلك بوثنية غيرهم،كما نص على ذلك الاخباريون وانهم أثروا في غيرهم أيضاً.
إن معارفنا عن أديان العرب قبل الإسلام مستمدة في الدرجة الأولى من النصوص الجاهلية بلهجاتها المتعددة من معينية وسبئية وحضرمية وأوسانية وقتبانية وثمودية ولحيانية وصفوية، وهي نصوص ليس من بينها نص واحد ويا للاسف في أمور دينية مباشرة، مثل نصوص صلوات أوأدعية دينية أو بحوث في العقائد وما شابه ذلك. غير أن هذه النصوص المذكورة،ومعظمها كما قلت سابقاً في أمور شخصية، حوت مع ذلك أسماء آلهة ذكرت بالمناسبة، وبفضلها عرفنا أسماء آلهة لم يصل خبرها إلى علم الأخباريين ؛ لأن ذكرها كان قد انطمس وزال قبل الإسلام.
ومن هذه النصوص استطعنا أن نستخرج آلهة القبائل العربية القديمة، وأن نرجعها إلى المواضع التي كانت تتعبد بها لها، وأن نعين العصور التي كان الناس فيها يتعبدون لها على وجه التقريب.
كذلك تعدّ الكتابات والنقوش المدونة ببعض اللغات الأعجمية كالآشورية والعبرانية واليونانية واللاتينية ولغة بني إرم، مورداً مفيداً لمعرفة أديان العرب قبل الإسلام بعد النصوص العربية. فقد وعت أسماء أصنام ةديمة نصت عليها، وبذلك ساعدتنا في الوقوف على عبادتها وعلى من تعبّد لها من قبائل.
وأما أديان العرب قببل الإسلام وعند ظهوره، فالقرآن الكريم هو مرجعنا في هذا الباب. فنيه ذكر لما كان عليه الناس ولا سيما أهل مكة ويثرب والحجازمن عبادات وآراء، وفيه أسماء بعض الأصنام الكبرى التي كانت تتعبد لها القبائل.
وفي تفسير القرآن الكريم تفصيل وشرح لما جاء موجزاً في الآيات البينات، ويضاف إلى ذلك ما ورد عن هذا الباب في الحديث.
وفي الشعر المنسوب إلى الشعراء الجاهليين اشارات إلى بعض عقائد الجاهليين، والى بعض الأصنام، تعرض لها شّراح الدواوين بالمناسبات، وترد هذه الإشارات في القصص المروى عن أخبار الجاهليهَ وعن أنساب قبائلها وأيامها وامثال ذلك وفي كتب الأدب و اللغة والمعجمات، وهي تعيننا بالطبع على زيادة مادتنا في هذا الوضوع.
ويضاف إلى ذلك ما ورد في كتب السير والمغازي وفي كتب التواريخ من كتب خاصة مثل تأريخ مكة، ومن كتب عامة عن عبادات القوم قبل الوحي وفي أثناء الوحي وعن أمر الرسول بتحطيم الأصنام والأوثان. وقد ورد بهذه المناسبة أوصاف يعضها، وذكرت بعض المواضع التي كانت قائمة فيها، والقبائل التي كانت تتعبد لها، وما أدير حول بعضها من قصص، أو ما قيل عنها في الجاهلية وفي تحطيمها من أقوال.
ومما يجب علينا ملاحظته، لن الشعر الجاهلي الذي أمدنا بفيض من معارف قيمة عن الجاهلية القريبة من الإسلام، لم بمدنا بشيء مهم عن الحياة الدينية عند الجاهلين، فكأنه أراد مجاراة من دخل في الإسلام في التنصل من أيام الجاهلية ومن للتبرؤ منها، ومن غض النظر عن ذكر أصنام حرمها الإسلام. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى ان رواة الشعر في الإسلام، قد أغفلوا أمرالشعر الجاهلي الذي مجد الأصنام والوثنية، وأهملوه، فلم يرووه، فمات، وان بعضاً منهم قد هذب ذلك للشعر وشذبه، فحذف منه كل ما له علاقة بالأصنام والوثتية، ورفع منه لسماء الأصنام، وأحل محلها اسم الله، حيث يرد اسم الصنم. فما فيه اسم الله في الشعر الجاهلي،.كلن اسم صنم في الأصل.
وقد الف بعض العلماء مؤلفات خاصة في الأصنام، وصل إلينا منها كتاب "الأصنام" لابن الكلبي. أما المؤلفات الأخرى، فلم يصل للينا منها إلا الاسم.
وممن ألف في هذا الموضوع ابو الحسن علي بن الحسين بن فضيل ين مروان، والجاحظ. وقد استفاد ياقوتّ الحموي في كتابه "معجم البلدان" من كتاب "الأصنام" لابن الكلبي، وأورد ما أخذه منه في الكتاب، أما النسخة التي اعتمد الحموي عليها، فكانت في عالم مشهور وبروايته هو الجوالقي.
وقد تعرض ابن الكلي لذكر الوثنية والأصنام فى مؤلفاته الأخرى عرضاً، وأشار "ياقوت الحموي" في بعض المواضع إلى رواياّت أخرى لابن الكلبي عن الأصنلم، ذاكراً انها ليست من كتاب "الأصنام". كما استقى من منيع آخر، هو محمد بن حبيب.
وقد ألف أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع كتاباً في أديان العرب وأرائهم، اسمه "آراء للعرب وأديانها"، وقف عليه ابن أبي الحديد، وأشار إلى بعض هفوات رآها فيه. وللجاحظ مؤلف اسمه "أديان العرب" استفاد منه أيو الفتح محمد بن عبد للكريم الشهرستاني. وبالرغم من فضل من تقدم ممن ذكرت وممن لم أذكر، على دارس التاريخ الديني للجاهليين فإنهم عفا الله عنهم، لم يتعمقوا تعمقاً كافياً في بحوثهم عن الوثنية، ولم يتحرشوا بها في الغالب، إلا بسبب اتصالها بالإسلام، ثم إن في كثير مما ذكروه عن الوثنية طابع السذاجة وأسلوب الصنعة. وهو في أحوال الوثنية في الحجاز وعند القبائل التي ورد لها ذكر في حوادث الإسلام في أيام الرسول، في مثل قدوم وفود سادات القبائل على النبي، وأمر الرسول بتحطيم الأصنام. ولهذا لا نجد للوثنية في بقية مواضع جزيرة العرب، مكاناً فيما كتبه أولئك العلماء عن الأصنام والأوثان أو الزندقة. ثم إن في الذي ذكروه وكتبوه تناقض محير، وتنافر عجيب، يجعلك تشعر، ان رواة تلك الأخبار، لم يكونوا يملكون يومئذ أدوات النقد لصقل ما سمعوه من أفواه الرواة، وما نقلوه عمن أدرك الجاهلية من أقول، أو انهم كانوا يعمدون إلى الوضع أحياناً: لصنع أجوبة عن أسئلة وجهت اليهم في أمور لم يأتهم علم بها من قبل.
خذ ما ذكره "الطبري" في تفسيره عن اللات والعزى ومناة، تجده يروي أقوالاً ذكر سندها تتناقض فيما بينها بشان هذه الأصنام، وبشأن بيوتها ومواضعها، مما يدل على أن رواة تلك الأخبار لم يكونوا على علم بأخبارها ولا وقوف على حقيقتها، بدليل أن كل واحد منهم ناقض غيره فيما قاله، وأن أحدهم يذكر خبراً ثم يعود فيذكر ما يناقضه. حدث كل ذلك في أمور كانت باقية إلى ما بعد فتح مكة، فكيف حالهم اذن في الأمور البعيدة نوعاً ما عن الإسلام.
ولا تتناول الموارد الإسلامية بعد، إلا الوثنية القريبة من الإسلام والوثنية التي كانت متفشية بين قبائل الحجاز في الغالب، وبين القبائل التي اعتمد عليها رواة الأخبار في جمع اللغةوالأخباز لذلك لا نجد فيها ذكراً للوثنية البعيدة عن الإسلام، فلم يرد فيها مثلاً أي شيء عن "المقه" إله سبأ الأكبر ولا عن بقية الآلهة العربية الجنوبية الكبيرة مثل "عثتر"، وعن دين العرب الجنوبيين وشعائرهم، ولاعن معبودات قبائل العربية الشرقية: أو قبائل العراق أو بلاد الشام في الأزمنة البعيدة أو القريبة من الإسلام.
وأما أخبارها عن اليهودية والنصرانية، فقليلة جداً، قصتها وروتها لما لها من تماس وصلة بما جاء في القرآن الكريم، أو لما لها من علاقة بأيام الرسول. ولهذا صارت خرساء صامتة بالنسبة إلى أحوال أهل الكتاب في بقية أنحاء جزيرة العرب أو في العراق وفي بلاد الشام. فلم تتحرش بهم إلا بقدر. وبسبب ذلك صارت معارفنا عنهم قليلة جداً. وقد كان في إمكان أهل الأخبار جمع معلومات واسعة عن النصرانية في العراق قبل الإسلام، برجوعهم إلى رجال الدين النصارى الذين كانوا في الحيرة وفي مواضع أخرى من العراق، وهم رجال لهم علم واسع بهذه الأمور، لكن اختلافهم عنهم في الدين على ما يظهر، وانصرافهم إذ ذاك عن رواية كلّ ما يتعلق بالأمور الجاهلية خلا ما يتعلق يالنواحي القبلية وبالنواحي الأدبية واللغوية، كانا من العوامل التي أدت إلى غض نظرهم عن البحث في هذه الأمور.
وبفضل إقرار الإسلام لبعض أحكام وشعائر الجاهلين، استطعنا الوقوف كل جانب من أحكامهم و شرائعهم. فعرفنا بذلك بعض شعائر الحج من حجّ مكة، وبعض أحكامهم وآرائهم في الدين ووجهة نظرهم إلى الحلال والحرام، والتقرب إلى بيوت الأرباب وفي ذلك. وما كان في وسعنا الوقوف عليها لولا تعرض الإسلام لها بالإقرار والتثبيت. أو بالتحريم والنهي،فأشير إلى كلّ ذلك في القرآن الكريم وفي كتب التفسير وأسباب النزول والحديث.
وقد عُني المستشرقون بهذا الموضوع، فكتبوا بحثوا فيه ومن هؤلاء "ولهوزن" J.Wellhausen صاحب كتاب "بقابا الوثنية العربية" Arabischen Heidentumes و "دتلف نيلسن" Ditlef Nielsion و " لودولف كويل " Ludolf Krehiوَغيرهم.
وقد اعتمد "ولهوزن" على ما نقله "ياقوت الحموي" من كتاب الأصنام ومن غيره، ذلك لأن كتاب الأصنام لم يكن مطبوعاً ولا معروفاً ايام اْلف "ولهوزن" كتابه عن الوثنية العربية.
ويعدّ كتاب "ولهوزن" أوسع مؤلف في موضوعه كتبه المستشرقون عن الوثنية العربية. وقد كتب المستشرقون حديثاً جملة بحوث عن الأصنام العربية التي عثر عليها في الكتابات فات ذكرها في كتاب "ولهوزن"، لأن أكثر النصوص الجاهلية لم تكن قد نشرت يومئذ، ولأن كثيراً منها قد نشر حديثاً، فلم يكن في استطاعة "ولهوزن" بالطبع أن يبحث في شيء من التفصيل في الوثنية ببلاد العرب الجنوبية. لذلك كان أكثر ما جاء في كتاب "ولهوزن" مستمداً من روايات الأخباريين. فمن الضروري إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو وأمثاله، لنحصل على صورة شاملة عن أديان العرب قبل الإسلام.
وتفيد الأعلام الجاهلية المركبةTheophorus Names المدونة في للنصوص الجاهلية وفي الموارد الإسلامية فائدة كبيرة في معرفة الأصنام، وفي تكوين فكرة عنها. ففيها أسماء آلهة، وفيها بعض الصفات الإلهية التي كان يطلقها الناس على آلهتهم. وفي هذه الأسماء المركبة عند بقية للشعوب السامية كذلك. ومن مقارنة هذه الأسماء بعضا ببعض، استخرج العلماء آلهة اشترك في عبادتها جميع الساميين. ونعني ب Theophorus Names الاعلامَ المركية من أسماء آلهة ومن كلمات اخرى مثل "عبد" و "عطية" و "امرئ" و "أوس" و "عائذ" و "جار" و "عوذ" و "وهب". ترد قبل اسم الإلهَ أو بعده، فيتألف منها ومن أسماء الآلهة أسماء أعلام، مثل عبد الأسد،وعبد الله، وعبد سعد، وعبد العزّى، وعبد محرق، وعبد ذي الشرى، وعبد يغوث، وعبد ودّ، وعبد قيس، وعبد شمس، وامرىء القيس، وأمثال ذلك من أعلام.
ومعظم هذه الأعلام المدونة في مؤلفات الإسلاميين، لسماء أشخاص عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام، حفظتها ووعتها ذاكرة الرواة، ومنهم تناقلها أهل الأخبار. والغالب عليها الابتداء بكلمة "عبد" للرجال و "أمت" أي أمة للنساء، ترد قبل اسم الصنم. أما الأسماء المبتدأة بكلمات أخرى غير "عبد"، فمثل "أحمس الله" و "امرئ مناة"، و "امرئ القيس"، و "أنس الله" و "أوس الله"، و "تيم اللات"، و "خيليل"، و "زيد اللات" ؛ و "زيد مناة"، و " سعد لللات"، و "سعد مناة"، و "سعد ودّ " و "سعد العشيرة"، و "سكن اللات"، و "سلم اللات"، و "شراحيل" و "شرحيل"، و "شرحبيل"، و "شكم اللات"، و "شهميل"، و "شيع للقوم"، و "عائذ الله"، و "عمرو لللات"، و "عوذ مناة" و "عينيل"، و "قسميل"، و "مطرويل"، و "وهب لللات". وهي قليلة من حيث الاستعمال بالقياس إلى الأعلام المبتدأة ب "عبد.
ويلاحظ على بعض الأعلام المركبة، مثل عمرو اللات، وعوف إيل، وجد اللات، وسعد مناة، وودّ ايل، ان الكلمات الأولى من هذه الأسماء تتأخر في أعلام أخرى ؛ فتسبق بكلمة توضع قبلها فيتكون منها علم مركب جديد كما في الأسماء آلاتية: عبد عمرو، وعبد عوف، وعبد جد، وعبد سعد، وعبد ودّ، وقد كانت متقدمة في الأعلام الأولى. أما في هذه الأعلام فصارت في المنزلة الثانية.
وهذه الأسماء التي حفظتها ذاكرة أهل الأخبار، تخالف أكثر الأعلام العربية والسامية القديمة المدوّنة في النصوص وفي مؤلفات اليونان والرومان والسريان وغيرهم من حيث الصيغ والتراكيب. فقد ابتدأت هذه الأعلام كما رأينا بكلمات تلتها أسماء الآلهة. أما الأعلام القديمة، فقد كانت على العكس تبدأ باسم الصنم،وبعده الألفاظ الأخرى، مثل: "الشرح" "ايل شرح" و "إليفع" "ايل يفع" و "الذرح" "ايل ذرح" و "الكرب" "ايل كرب" و "السمع" "ايل سمع" و "اليثع "ايل يثع" وأمثال ذلك. أو تبدأ.كلمات ثم تليها أسماء الأصنام، إلا أنها ليست في حالة الإضافة، بل على صورة الإخبار والفاعلية، مثل "يذكر ايل" و "يثع ايل" و "يدع ايل" و "يشرح ايل" و"يسمع ايل"، و "ايل" "ال" هنا هو اسم الإله " ال" "ايلو" المعروف عند جميع الساميين.
وقد يوضع حرف الجر، وهو "اللام" "لامد" في الاسم، ليدل على تعلق الاسم بالإلَه، مثل "لحي عثت" في النصوص العربية الجنوبية، وقد عثر على طائفة من هذه الأعلام في الكتابات الفينيقية والعبرانية.
وقد تهمل الكلمة الثانية من الاسم المركب، ويقتصر على اللفظة الأولى، كما في: أوس، وزيد، ووهب، وتيم،، وسعد، ونصر، وعائذ، وعبد، وأمثال ذلك من أعلام. فإنها اختصار ل "أوس الله"، و " زيد اللات"، و "زيد مناة"، و "وهب اللات"، و "تيم اللات"، و "سعد مناة" و "سعد ودّ "، و "سعد اللات"، و "نصر اللات"، و "عاثذ الله" و "عبد ود"، وغير ذلك. وقد يحدث العكس، فتسقط الكلمة الأولى، وتبقى الكلمة الثانية التي هي اسم الإلهَ، ويصير هذا الاسم اسماً لشخص أو لأسرة أو لقبيلة، مثل: مناف، وغنم، وشمس، وإسا ف، ونائلة، وزهرة، وقيس، وعُطارد، وهبل، وجدّ، وأمثال ذلك. فإن هذه هي أسماء آلهة في الأصل، سبقت بكلمات مثل "عبد"، ثم أهملت هذه الكلمات الأولى، وبقيت أسماء الآلهة حية، ولكنها صارت أسماء لأشخاص وأسر وقبائل، تسبقها لفظة "بنو" في بعض الأحيان، لتدل على الانتماء إلى ذلك الاسم. ولهذا الانتماء أهمية كبيرة في نظر الباحثين في فلسفة الأديان وتأريخها.
ويلاحظ أن بعض الأعلام المركبة المبتدأة ب "عبد " مثلاَ، لا تتكون كلمتها الثانية من اسم إلهَ، إنما تكون اسم موضع أو اسم شخص أو اسم جماد، مثل: عبد حارثة، وعبد المطلب، وعبد أمية، وعبد الدار، وعبد الحارث، وعبد ألحجر، وما شاكل ذلك. ولبعض العلماء تفاسير وتعليلات في العوامل التي أدّت الى هذه التسميات: منها أن بعض هذه الأسماء هو لآلهة قديمة، نسيت فظن أنها أسماء أشخاص: وأن بعض آخر منها هو أسماء أشخاص كانت لهم قدسية أو منزلة خاصة، فتبرك الناس بتسمية أولادهم عبيداً لهم، وهو شيء يحدث حتى الآن، إذ نقول عبد المسيح، وعبد الرسول وعبد علي، وعبد الأمير، وعبد الزهرة. وعبد محمد، وان بعضا اخر هو مسميات لمجتمعات، مثل عبد اهله، و عبد العشيرة، و سعد العشيرة، أو أنه نسبة الى طوطم أو جماد مقدس في نظر الناس.
وقد قضى الإسلام على الأسماء الوثنية، كما قضى كثير من معالم الجاهلية، فأستبدل من أسلم اسمه الجاهلي الذي له صلة بصنم أو بشرك ياسم إسلاميِ، وبذلك زالت تلك اتسميات. كما زالت أكثر التسميات اليهودية والنصرانية بدخول أصحابها في الإسلام. وهذا شيء مألوف في تاريخ الإنسان. فقد قضت اليهودية على الأسماء الوثنية القديمة، وعوضت عنها بأسماء يهودية ذات صلة بالتوراة " وقضت النصرانية على الأعلام الوثنية أو طورتها لتكون ملائمة مع النصرانية، وهكذا.
حدث في الأديان الأخرى، بل وهذا ما يحدث اليوم في كثير من أنحاء العالم القلقة عند وقوع انقلابات سياسية، جث تتناول الأسماء أيضاً بالتغيير والتبديل، لتناسب الوضع الجديد.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من الصحابة، كانت أسماؤهم ذات صلة بالأصنام، فلما أسلموا أبدلها الرسول بأسماء اسلاميه. فقد كان أسم كاتب النبي "عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم" "عبد يغوث" فلما أسلم دعي "عبد الله". وكان اسم "عبد الله بن أصرم بن عمرو بن شعيثة" الهلالي "عبد عوف بن أصرم"، فلما قدم على النبي، فقال، من أنت ? قال عبد عوف. قال النبي: أنت عبد اللَه، فأسلم. ونجد غيرهما وقد أبدل الرسول أسماءهم، حتى صار من يسلم يبدل اسمه إن كان له صلة بصنم، حتى ماتت الأسماء الجاهلية التي هي من هذا القبيل.
والأساطير Myth=Mythos، ونعني بها هنا الخرافات والأقاصيص، المتعلقة بالآلهة Legand. هي مصدر مهم لمعرفة تطور الأديان وتطور فكرة الالوهية عند الشعوب. وهي قد تكون شعراً، وقد تكون نثراً، وفي كلتا الحالتين تكون مادة خصبة للباحثين.
ومعارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جداً. وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم، كما كان عند غيرهم من الأمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين، بل حتى عند بعض الشعوب السامية الأخرى مثل البابليين. وفي رأيي أننا لا نستطيع أن نجزم في مثل هذه الأمور، لأن أحكامنا عن اليونان والرومان والبابليين إنما استنبطناها من نصوص ومؤلفات وصلت إلينا. أما العرب الجاهليون، فلم يصل إلينا منهم حتى الآن نص ما في هذا الموضوع، يمكننا من الحكم بعدم وجود الأساطير الدينية عند العرب الوثنيين.
ومشكلتنا أننا لا نملك كما قلت نصوصاً دينية جاهلية، ولا كتباً كتبها يونان أو لاتين أو سريان أو غيرهم عن أساطير العرب في الجاهلية نستطيع استخراج حكم منها عن أساطير العرب. ولكن هذآ الوضع لا يخولنا نفي وجود الأساطير عند العرب، بحجة بداوتهم وضيق أفقهم وبساطة تفكيرهم، كما أنه لا يخولنا أيضاً الحكم بوجود أساطير عندهم من طراز عال كما نجده عند اليونان مثلا. ويتبين من بعض روايات الأخباريين، وهي قليلة، أن العرب كانت لهم أساطير كالذي رووه من أن "العيَوق" عاق "الدبران" لما ساق إلى الثريا مهراً، وهي نجوم صغار نحو عشرين نجماً، فهو يتبعها اًبداً خاطباً لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص وكالذي رووه عن "العَبُور" و "الغُميصاء" و"سهُيل". وقد كانت هذه النجوم مجتمعة، فانحدر سهُيَل فصار يمانيأَ، وتبعته العَبوُر فعبرت المجرَةَ، وأقامت الغُميَصْاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت.وكالذي رووه من أن "الز هرة" كانت امرأة جسناء، فصعدت إلى السماء ومسخت نجماً، وأمثال ذلك من قصص يظهر أنه من يقايا قصص أطول قديم.
وإذ. لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية، صعب علينا تكوبن فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم، وعن كيفية تصورهم للآلهة، خاصةً عند العرب الذين عاشوا قبل الميلاد.
وقد تعنينا أسماء الآلهة والأعلام المركبة في تكوين وجهة نظر عن صفات آلهة الجاهليين. فكلمات مثل "ودّ" و "شرح" و "سعد" و "سمع"، أو تعابير شل "ذت حمم" "ذات حميم" و " ذت صنتم" "ذات صنتم " و "ذت رحبن" "ذات رحبن" و "ذت بعدن" "ذات بعدن" "وذ قبضم" "ذو قبضم" وما شابه ذلك، لا بد أن تكون لها معان خاصة تشير إلى صفات الآلهة التي قيلت لها، فتفيدنا في فهم عبادة الجاهليين وتفًكيرهم في تلك الآلهة. وإذا كانت بعض أسماء الآلهة أو صفاتها واضحة مفهومة تمكن الاستفادة منها في تكوين فكرة عن الآلهة، فإن هناك بعضاً آخر يحيط بمعناه الغموض، فلا نستطيع شرح معناه أو ترجمته إلى اللغات الأخرى. وليس من المعقول بالطبع عدم وجود مدلول أو مراد لأسماء هذه الآلهة عند من وضعها لها، ونسبها اليها، وانما المعقول هو ان هذه المسميات نسيت بتقادم الزمن وبزوال دولتها وعظمتها من الوجود، وضاعت معالمها، فلم يبق منها إلا الأسماء المجردة. ولعل معانيها كانت غامضة حتى على من كان يتعبد لها، لاختفائها منذ زمن طويل، وعدم ورود نصوص مدونة إلى المتعبدين لها في هذه المعاني،وهذا شيء مألوف معروف. وتختلف نظرة الإنسان إلى الخالق والخلق باختلاف تطوره ونمو عقله، ولهذا نجد فكرة "الله" "الإلَه" التي تقابل كلمة Deus في اللاتينية وكلمة Theos في اليونانية وكلمة Godفي الانكليزية، تختلف باختلاف مفاهيم الشعوب ودرجات تقدمها. فهي عند الشعوب البدائية القديمة والحديثة في شكل يختلف عن مفهومها عند الشعوب المتحضرة. كذلك اختلفت عند سكنة البوادي عن سكنة الجبال والهضاب،ويختلف مفهوم فكرة الله عند الشعوب السامية عنها عند للشعوب الآرية، لأسباب عديدة يذكرها علماء تاًريخ الأديان. بل يختلف هذا المفهوم في داخل الشعب الواحد، يختلف فيه باختلاف ثقافة الإنسان وتقدم مداركه العقلية، فتصور كل انسان خالقه على قدر عقله ودوجة ثقافته، صوره وكأنه مرآة صافية لنفسه ولدرجة نمو عقله. ومن هنا قيل: ان الإنسان يصنع إلهه بنفسه، أي يصوره على نحو صورته ومبلغ تفكيره.
يقول " أكسينوفان" Xenophanes: "تصور الأحباش آلههتهم فطس الأنوف، سوداً. وتصور أهل "تراقية" Thracians آلهتهم ذوي عيون زرق وشعر أحمر. وزعم اليونان أن تصورهم للالهة هو التصور للصحيح، أما تصور الزنوج وأهل تراقية عن آلهتهم، فهو تصور فاسد باطل ! ولو كان للماشية والخيل والسباع أيد تتمكن من الرسم والنحت، لرسمت الخيل آلهتها على صورة خيل،ولنحتت تماثيلها على صورتها، ولرسمت الماشية ونحتت آلهتها على صورتها وهيئتها، تماماً كما يصور الإنسان وينحت آلهته على صورته وقدر إدراكه. كل صنف يتصور ويرى آلهته على صورته". وقد نسب اليونان إلى آلهتهم كل الصفات والأعمال الانسانية المعروفة بين اليونانيين، فتصوروهم على هيئة بشر، لهم الفضائل، ولهم الرذائلْ، يتزوجون وينسلونُ ويحبون ويعشقون ويسرقون ويكرهون ويتخاصمون بينهم ويتحاسدون ويقومون بأقبح الأعمال كما يفعل الإنسان.
وهناك أشكال عديدة للعبادة، تمثل تعدد وجهة نظر الإنسان بالقياس إلى مفهوم الألوهية لديه. فهناك عبادة تسمى عبادة آباء القبائل، حيث أسبغ على أجداد القبائل ما يسبغ عادةً على الآلهة من نعوت وصفات. وتجد هذه العبادة عند القبائل البدائية. وقد يكون هؤلاء الأجداد أجدادا حقيقيين، وقد يكونون أشخاصاً خلقتهم الأساطير. ومهما يكن من شيء، فقد أعطي هؤلاء صفات الربوبية ونعوتها، و نظر إليهم نظرة من فيه قوى خارقة ذات هيمنة على العالم والخلق. وقد اصطلح على تسمية هذه العبادة بAll Fathers في الانكليزية وب Verehrung des Stammesvaters و ب Urvaters في الالمانية، لأنها تقوم على أساس عبادة الأجداد.
وأله بعض الناس الظواهر الطبيعية، لتوهمهم أن فيها قوى Spirit روحية كامنة مؤثرة في العالم وفي حياة الإنسان،مثل الشمس والقمر وبعض النجوم الظاهرة. وقد كانت الشمس والقمر أول الأجرام السماوية التي لفتت أنظار البشر اليها، لما في الشمس من أثر بارز في الزرع والأرض وفي حياة الإنسان بصورة مطلقة. كذلك للقمر أثره في نفس الإنسان بما يبعثه من نور يهدي الناس في الليل، ومن أثر كبير يؤثر في حس البشر. فكانا في مقدمة الأجرًام السماوية التي أّلهها الإنسان. عبدهما مجردين في بادىء الأمر، أي دون أن يتصور فيهما ما يتصور من صفات ومن أمور غير محسوسة هي من وراء الطبيعة. فلما تقدم وزادت مداركه في أمور ما وراء الطبيعة، تصور لهما قوى غير ُمدْركة، وروحاً، وقدرة، وصفات من الصفات التي تطلق على الآلهة. فخرجتا من صفتهما المادية البحتة ومن طبيعتهما المفهومة، وصارتا مظهراً لقوى روحية لا يمكن إدراكها، إنما تدرك من أفعالهما ومن أثرهما في هذا الكون.
وإذا كانت هذه العبادة قد اقتصرت على الظواهر الطبيعية البارزة المؤثرة، فإن هناك توسعاً في هذه العبادة تراه عند بعض الأقوام البدائية، يصل إلى حد تقديس الأحجار والأشجار والآبار والمياه وأمثال ذلك، إذ تصوروا وجود قوى روحية كامنة فيها، فعبدوها على أن لها أثرا خطيراً في حياتهم. ونجد في أساطير الشعوب البدائية أن الإنسان من نسل الحيوان ومن الأشجار أيضاً، كذلك تجد أمثلة عديدة من هذا القبيل في أساطير اليونان والرومان والساميين.
وهناك الشرك، وهو عبادة آلهة عديدة، كما ان هناك عقيدة التوحيد التي تدين بوجود إله واحد خالق لهذا الكون. وليس للشرك با الطبع عدد معين من الالهة، فقد يكون بضعة آلهة، وقد يكون عشرات. والشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد، ويعرف بإسم: Polytheism في الانكليزبة من كلمة Polys اليونانية ومعناها"كثير" و "تعدد"، ومن كلمة يونانية ثانية هي Theos وتعني "الإلَه" "الآلهة". ويختلف الشرك عن عقيدة ال Polydaemonism القائلة بوجود ألأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، كما يختلف عن أد.يان التوحيد Monotheism من حيث القول بتعدد الآلهة، وعن القائلين بمبدأ "الحلول" "Panatheism " من حيث حلول الإلَه في الخلق والخلق في الإلَه.
وتطلق في العربية كلمة "إله" على الإله الواحد، وكلمة "آلهة" في حالة الجمع، أي في حالة القول بوجود آلهة عديدة. وتقابل كلمة "إلهَ" كلمة "اياوه" Eloh=Eloah في العبرانية الواردة في سفر "أيوب". ومنها كلمة"إيلوهيم" Elohim في حالة الجمع، أي آلهة المستعملة في العهد القديم بالقياس إلى آلهة الوثنيين. وكلمة "إله" لا تعني على كل حال إلهاً معيناً على نحو ما تعنيه لفظة "الله" في العربية التي يراد بها اللّه الواحد الأحد ليس غير.
أما "الله"، وهي كلمة الجلالة، فهي "اسم علم" خاص به على رأي، وهي "علم مرتجل" في رأي آخر.. وقد ذهب ألرازي إلى انه من أصل سرياني أو عبراني. أما أهل الكرفة فرأوا انه من "ال إله"، أي من أداة التعريف "ال" ومن كلمة "إله". وهناك آ راء لغوية أخرى في أصل هذه اللفظة.
ولم يعثر على لفظة "الله" في نصوص المسند، وإنما عثر في النصو ص الصفوية على هذه الجملة: "ف ه ل ه"، وتعني "فالله" أو "فيا الله" و "الهاء" الأولى هي أداة التعريف في اللهجة الصفوية. وقد وردت الجملة على صورة أخرى في بعض الكتابات الصفوية. وردت على هذا الشكل.: "ف ه" ل ت"، أي "فالات" فيا الآت" أيَ في حالة التأنيث. وتقابل "اللات"، وهي صم مؤنث معروف ذكر كذلك في القرآن الكريم.
ويظن بعض المستشرقين أن "الله" هو اسم صنم كان بمكة، أو أنه "إلَه" أهل مكة، بدليل ما يفهم من القرآن الكريم في مخاطبته ومجادلته أهل مكة من اقرارهم بأن الله هو خالق الكون.
وترد في العربية كلمة أخرى من الكلمات المختصة بالخالق، هي "ربّ "وجمعها "أرباب". وهي من الكلمات العربية الجاهلية المذكورة بكثرة في القرآن الكريم، ولها معنى خاص في اللاهوت وفي الأدب العربي للنصرانىِ. وتقابل كلمة Lord في الانكليزية. وكلمة "بعل"، و "ادون" في اللغات السامية الأخرى. ويذكر علماء اللغة أن "الربّ" هو الله، هو رب ّ كل شيء، أي مالكه. وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو ربّ الأرباب، ومالك الملوك والأملاك، ولا يقَال الرب " في غير الله، إلا بالإضافة.
وقد قال الجاهليون: "الربّ" للملك. قال الحارث بن حلزة: وهو الرب، والشهيد على يو  م الحيارين، والبلاء بـلاءْ
ويظهر ان لفظة "الرب" و "رب" كانت بمعنى "سيد" ومالك عند الجاهليين، ولم تكن تعني العلمية عندهم. أي ألوهية خاصة بالله، وهي تؤدي معنى "بعل" عندهم ايضاً. فكانوا يطلقونها على الإلهَ والالهَة وعلى الإنسان باعتباره سيداً ومالكاً. أما هذا التخصص الذي يذكره علماء اللغة، فقد حدث في الإسلام من الاستعمال الوارد في القرآن الكريم.
و "ربّ " البيت"، الله، وكذلك: "رب هذا البيت. و "رب الدار"، أي مالكها، وكل من ملك شيئاً، فهو ربه. وبهذا المعنى "هو رب الأرباب" أما "الربة"، فعنوا بها الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطائف. وكان لهم بيت يسمّونه "الربة." و "بيت الرية"، يضاهي "بيت الله" بمكة. فلما أسلموا هدمه "المغيرة". و "الربة": كعبة كانت بنجران، لمذحح وبني الحارث ين كعب يعظمها الناس.
وأما "بعل"، فمعناها مالك وصاحب ورب في اللهجات السامية. فترد بعل الموضع الفلاني، أي صاحب: ذلك الموضع وربه. ومؤنث الكلمة هو "بعلت". وترد كلمة "بعل" بمعنى زوج في العربية، وقد وردت بهذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم، وأما الزوجة، فهي "بعلت" "بعلة" أي في حالة التأنيث.
ولما كانت لفظة بعل تعني الرب والصاحب، صار اسم الموضع يرد بعد "بعل"، فيقال: "بعل صور"، و "بعل لبنان"، و "بعل غمدان"، أي رب المواضع المذكورة وصاحبها وسيدها. أما اذا وردت اللفظة مستقلة دون ذكر اسم الموضع المنسوب اليها بعدها، فتعني عندئذ رب وإلهَ، اي رب الجماعة المتعبدة المؤمنة بهْ.
وقد ورد في القرآن الكريم في صدد الكلام عن الياس Elijah )وانّ إلباسَ لَمنَِ المرسلين. إذ قال لقومه: ألا تتقون ? أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين(، وقد ذهب الطبري في تفسير "بعل" في هذه الآية إلى أن بعلاً تعني رباً في لغة أهل اليمن، أو ان المراد ببعل صنم.
ومن رأي "روبرتسن سمث"، Robertson Smith أن العرب اقتبسوا المعنى الديني لبعل من الأقوام السامية المجاورة لهم مثل سكّان "طور سيناء" أو موضع آخر، أخذوه من تلك الأقوام التي عرفت باشتغالها بالزراعة، ولا سيما زراعة النخيل، وان هذا المعنى دخل اليهم بدخول زراعة النخيل إلى بلاد العرب. وأنه استعمل عند العرب المزارعين. أما البدو والرعاة، فإنهم لم يستخدموا تلك اللفظة بالمعنى المذكور. وهو رأي يخالف رأي بعض المستشرقين من أمثال "نولدكه" Noldeke و "ولهوزن" Wellhousen الذين يرون أن عبادةّ "بعل" هي عبادة سامية قديمة كانت معروفة عند قدماء العرب منذ أقدم العهود.
ويرى بعض المستشرقين ان لفظة "بعل" أطلقت خاصة على الأرض التي لا تعتمد في زراعهّا على الأمطار أو على وسائل الري الفنية، بل على المياه الجوفية وعلى الرطوبة في التربة، فينبت فيها خير أنواع النخيل والأثمار، فهي تمثل الخصب والنماء. والظاهر ان الساميين كانوا يخصصون أرضهم بالالهة، لتمنّ عليهم بالبركة واليمن، فتكون في حمى ذلك الإلَهً "بعل الموضع الفلاني". ومن هنا صارت جملة "بعل سميم" "بعل سمن" "بعل سمين" تعني "رب السماء"، ويعنى بذلك المطر الذي هو أهم واسطة من وسائط الإسقاء والخصب والنماء في جزيرة العرب وفي البلاد التي يسكنها الساميون. ورأى مستشرقون آخرون ان جملة "أرض بعل" تعني الأرض التي تسقى بالأمطار.
وذكر العلماء أن لفظة "الال" بمعنى الربوبية، و اسم الله تعالى. وأن كل اسم آخره "ال" أو "ايل" فمضاف إلى الله تعالى، ومنه "جبرائيل" و "ميكائيل". وذكر أن "أبا بكر" لما سمع سجع "مسيلمة"، قال: هذا كلام لم يخرج من ال ولا بر، أي لم يصدر عن ربوبية. وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى أن اللفظة "ايل" من المعربات. عربت عن العبرانية، وهي فيها اسم الله. وهي من الألفاط العامة التي ترد في اللغات السامية، ولا يعرف معناها على وجه مضبوط، ويظن أنها بمعنىْ "القادر" و "العزيز" والقهار، والقوي، والحاكم. وترد في الشعر وفي أسماء الأعلام في الغالب. وقلما نجدها ترد في النثر.
وقد وردت في نصوص المستد وفي نصوص أخرى ألفاظ كثيرة مثل "ود" و "سمع" أ ي "سميع" و "حكم" أ ي "حكيم"، و "حلم" أي حليم" و "علم" أي "عالم" و "عليم"، و "رحم" أي "رحيم"، و "رحمنن" أي "الرحمن"، وأمثال ذلك. ذكرت على صورة أسماء آلهة. لكنها في الواقع صفاتها لا أسماؤها. ذكرت في مقام ذكر أسماء الالهة، كما يقول المسلم في دعائه ربه يا سميع ويا حكيم ويا رحيم. وهي صفات وردت في القرآن الكريم.
وعلى من يريد الوقوف على رأي الجاهليين في "طبائع آلهتهم وفي تعيين صفاتها، حصر هذه الصفات وضبطها، وتعيين مدلولها، وهي صفات تدل على معانٍ خلقية مجردة. وسنتمكن بذلك من الوقوف على نظرة الجاهليين إلى آلهتهم، ومن تعيين وتثبيت عددها إذ سيظهر لنا من هذه الدراسة ان أكثر تلك الأسماء ليست أسماء آلهة، وانما هي صفات لها، وان الكلمات التي لا بشك في كونها أسماء صحيحة قليلة جداً، ربما لا يتجاوز عددها الثلاثة، هي الثالوث. ومن يدري ? فقد تكون في النتيجه اسمأ لإلَه واحد، وعندئذ يمكن أن نتوصل إلى نتيجة علمية بالقياس إلى عقيدة الشرك أو التوحيد عند العرب الجاهليين.
وبحد الإنسان اليوم سذاجة مضحكة في بعض العقاثد الدينية التي كانت عند الشعو ب القديمة، ويستصعب تصور اعتقاد الناس بها، وهو ينسى أن هذه العقائد أو بعضها على الأقل، لا تزال معروفة بين بعض قباثل افريقية وأستراليا،وأماكن أخرى من العالم، وان العقل الانساني في تطور مستمر، وان هناك بشراً يؤمنون بعقائد ورثوها عن آبائهم لا تقل غرابة عن غرابة بعض المعتقدات التي نؤاخذ بها قدماء البشر، مع أنهم من الشعوب المتقدمة في الحضارة وفي المدنية، ومن القرن الذي نفتخر بتسميته بقرن العقوق على الأم، والهروب منها إلى بيوت أخرى، تكون بعيدة عنها، سابحة في هذا الفضاء.
وقد يصعب على الإنسان اليوم تصور وجود فاثدة أو ضرر من اشياء جامدة لا يمكن قطعاً أن تضرً أو تنفع، ولكن القدماء تصوروه مع ذلك واعتقدوه. فقدسوا الأحجار والأشجار والحيوانات، وقد"سوا الأرواح والأموات من الآباء والأجداد والقديسين، وتعبنّدوا لها. ولهذه العبادات أسماء علمية خاصة اصطلح على تسميتها العلماء.
والدين هو إيمان وعمل: إيمان بوجود قوى هي فوق طاقة البشر، لها تأثير في حياته وفي مقدراته ؛ وعمل في أداء طقوس معينة تعين شكلها الأديان للتقرب إلى الآلهة ولاسترضائها. والإيمان هو قبل العمل بالطبع، فلا بد للقيام بالشعائر، أو باًداء العمل، من وجود إيمان عند الشخص أو الأشخاص بوجود إلَه أو آلهة. حتى يقوم بعمل ديني. فالعمل تابع للأيمان، ونتيجة من نتائجه، وهو شعاره ومظهره. وهو أبرز عند الأقوام البدائية من الأيمان لدرجة عقليتها ومجال تفكيرها الضيق. ومن العمل: الرقص، والأفراح الدينية و السحر، والقرابين، والحج، والصلوات.
وقد أقر الإسلام أشياء من أمور الدين كان يمارسها الجاهليون في جاهليتهم، لأنها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام. ودراسة أمثال هذه الأشياء توضح لنا نواحي خافية علينا في الزمن الحاضر من الحياة الدينية عند الجاهليين، لذلك أرى من الضروري تتبع هذه الأشياء لتدوين تاريخ صحيح للدين عند الجاهليين.وأرى من الضروري كذلك تتبع الأساطير والعادات الموروثة التي لها صلة وعلاقة بالدين الجاهلي بين الأعراب والحضر في كل أصقاع جزيرة العرب، ولا سيما القزى العربية النائية عن العمران المنعزلة عن الأعاجم، فإن معظم هذه الأساطير والتقاليد هي من بقايا الوثنية العربية القديمة، بقيت جذورها ثابتة راسخة في الآفئدة حتى اليوم.
ولا بد أيضا لدراسة الدين عند الجاهليين دراسة صحيحة من الرجوع إلى أصول الأشياء، وأعني بأصول الأشياء هنا ديانة الساميين الأولى بشكلها البدائي القديم. فمن تلك الشجرة تفرعت أديان الشعوب إلسامية، وفي ذلك الدين نجد الأصول والأسس التي بنيت عليها الديانات الفروع.
أما كيف نتمكن من الرجوع إلى الأصل ومن معرفة ديانة الساميين القديمة، فموضوع ليس بالسهل اليسير، ونحن، وان كنا نملك بعض المؤلفات والبحوث عن أديان الساميين، لا نستطيع أن نجرؤ فنقول ان البحث قد نضج فيه، وان القوم قد استوفوه من أطرافه وأكملوه، بل ان كثيراً مما تطرق اليه العلماء هو موضع جدل واختلاف، ولن يمكن التوصل إلى نتائج مقبولة معقولة إلا اذا تمكن الباحثون من الحصول على وثائق جديدة تكشف النقاب عن أديان قدماء الساميين.
وللتوصل إلى تكوين رأي عن أديان الساميين القديمة لا بد من دراسة النصوص الدينية السامية كلها. ودراسة كل ما له صلة بالدين عند الساميين، ومقارنة الأديان السامية بعضها ببعض ومراجعة الأصول اللغوية للمصطلحات الدينية عند جميع الشعوب السامية للتوصل منها إلى الأسس العميقة المدفونة التي أقيم عليها بنيان ديانة الساميين. ثم لا بد أيضاً من دراسة المؤثرات الخارجية التي أثرت في الساميين من عوامل طبيعية ومن عوامل أخرى غير طبيعية ومن الأثر الثقافي الذي كان "لغير الساميين في الساميين.
ويتبين من دراسة الأساطير السامية وجود شكل من أشكال التوحيد Henoteism عند القبائل السامية البدائية يمثل في اعتقاد القبيلة بوجود إلهَ لها واحد أعلى، غير ان هذا لا يعني نفي اعتقآدها بتعدد الالهة. فإننا نرى ان تلك القبائل كانت تعتقد، في الوقت نفسه، بالأرواح كأنها كائنات حيه ذات أثر وسلطان في مصير هذا الكون. وفي ضمنه الإنسان، وبآلهة مساعدة للالَه الكبير.
والديانات السامية، وإن كانت في الأصل من ديانة قديمة،قد تطورت وتغيرت بعوامل عديدة من العوامل التي تؤثر في كل المجتمعات البشرية فتحدث فيها انقلاباً في التفكير وفي طراز الحياة. ومن هذه العوامل المؤثرات الخارجية والمحيط الجديد. وسنجد ان ديانة العرب الجنوبيين، وإن كانت في الأصل من تلك الديانة السامية.
العقول النيرة التي هزأت بالأوثان وبديانات قومهم. وان رجالاً منهم كانوا على الحنيفية، يريدون بها ديانة التوحيد، وان آخرين بشّروا بالوثنية، وأشاعوها بين العرب، لما كان لهم من مكانة ونفوذ. وان رجالاً من الجاهليين كانوا على ملة اليهودية ودين المسيح. وان قوماً من أهل الجاهلية كانوا على عبادة "الله" و "الرحمان"، وكل المذكورين كانوا ممن مهد الجادة اذن لظهور ا لاسلام.
وقد أدى ظهور الإسلام إلى ظهور مصطلحات جديدة وموت مصطلحات قدبمة، وصارت هذه المصطلحات من علائم الوثنية. ولا بد لنا للوقوف على صورة أوضح للحياة الدينية عند الجاهليين من وجوب دراسة الألفاظ الجاهلية ذات المعاني الدينية بجمعها وتبويبها وتثبيت معانيها، فبهذه الدراسة نستطيع الوقوف على مبلغ تغلغل الحياة الدينية في نفوس الجاهليين، ومعرفة مدى تعمقهم في الدين وفهمهم له.
ومن الدراسات التي يجب أن تنال منا الرعاية والعناية لمعرفة الحياة الدينية وتطورها عند الجاهليين معرفة صحيحة، دراسة المصطلحات الدينية بحسب اللهجات العربية، وأماكن تلك اللهجات، وأسماء الأصنام أو الأوثان، ومعتقدات سكان تلك الأرضين في هذه الأيام، فإن دراسة مثل هذه تفيدنا فائدة كبيرة في معرفة أسس الحياة الدينية عند الجاهليين، وفي معرفة اختلاف العرب أو اتفاقهم في العقائد وفي الأمور الدينية، ومعرفة العوامل والأسباب النبي أدت الى ذلك، ثم معرفة المؤثرات الخارجية في الحياة الدينية للجاهليين. وبتثبيت هذه وأمثالها وبمقارنتها بأسماء أصنام الأقوام المجاورة وآلهتهم ومصطلحاتهم، نستطيع فهم كثير من الأمور الغامضة من الحياة الدينية عند ألعرب وعند تلك الأقوام، وفهم الاحتكاك العقلي والصلات الروحية التي كانت بين تلك الشعوب قبل الإسلام.
إن الأخباريين عفا الله عنهم، لم يعنوا بتنسيق هذا الذي توصلوا اليه ورووه لنا من آراء الجاهليين في الدين. فرووا روايات مختلفة متناقضة أو مقتضبة اقتضاباً مخلاً وجاءوا بأمور تثبت ان أولئك الأخباريين لم يكونوا على مستوى عال من اللنقد والتعمق في دزاسة الأخبار، وانهم كانوا يروون أخبارهم بالمعنى المفهومً من الأخبار. يأخذون ما يقال لهم فيروونه على نحو ما سمعوه وإن كان فيما يروونه ما يخاللف المنطق والفهق السليم. والاستسلام للروايات داء يذهب بالفائدة. منها، ويعود على المؤرخ بأفدح الأضرار. ولهذا نجد أنقسنا في موضوع أديان العرب قبل الإسلام في زوبعة عاتية وعاصفة مليئة بالرمال نتخبط فيها للحصول على مخرج نخرج منه، وليس لنا إلا الأمل. بالخروج من هذه العاصفة العاتية المتعبة في وقت ما.
وهذا الذي أورده أهل الأخبار عن أهل الجاهلية على ما فيه من تناقض، وتضارب واقتضاب، هو كما رأينا مادتنا الوحيدة عن الحياة الدينية عند عرب الجاهلية قبيل الإسلام وعند ظهوره، ولا سيما بالنسبة إلى عرب الحجاز وعرب الشام والعراق. وهناك روايات لم نستفد منها حتى الآن، لصعوبة التوصل اليها، لا لكونها في بطون المخطوطات، ولهذا بصعب الحصول عليها. فإن الكثير منها قد طبع، وهو في متناول الأيدي، إنما صعوبتها في كونها في كتب مطبوعة طبعاً على الطريقة القديمة بلا نظام ولا ترتيب ولا تبويب فنيّ ولا فهرست لما في الكتاب المطبوع من مواد ومن أسماء أشخاص أو أصنام أو أوثان أو ما شابه ذلك. وليس أمام المؤرخ في هذه الحالة إلاً أن يقرأ تلك الكتب من بسملتها حتى منتهاها، ليحصل منها في النهاية على كلمة أو كلمتين أو خبر أو أخبار، ولكن كيف يتمكن المؤرخ من قراءة كتب ضخمة كتفسير الطبري وكتب التفاسير الأخرى وشروح الحديث وكتب التواريخ والطبقات وبقية الكتب إذا كان الكتاب يتألف من أكثر من عشرة أجزاء، وهي كلها بلا فهرست للاعلام ولا لما في الكتاب من فوائد ومواد. لا يتمكن المؤرخ بالطبع من قراءة كلّ هذه الموارد المذكورة مع تساوي عمره بسائر أعمار الناس، ولو مدّ الله في عمره وصيّره إنساناً آخر ذا عمر طويل من أعمار الناس الذين أرخهم "السجستاني" في كتاب المعمرين، لتمكن من الإحاطة ببعض تلك الموارد على الأقل. غير أن عمر المؤرخ ويا للاسف مثل أعمار سائر الناس، قصير محدود، فليس في إمكانه الإحاطة بما ورد في هذه الكتب الواسعة المجهولة، على ظهورها في عالم الوجود ووجودها في خزانة كتب المؤرخ وفي يد أي شخص يريد الحصول عليها، لأن الموضوع ليس موضوع وجود كتاب مطبوع أو مخطوط، إنما هو اكتشاف ما في المطبوع أو المخطوط من آراء وأخبار وأعلام.
ما دام الوضع على هذا الحال وما دامت أكثر كتبنا غير مفهرسة ولا منسقة، فليس في استطاعة المؤرخ أن يأتي بشيء كثير يشفي غليل من يريد المزيد من المعرفة عن الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام. وهذا امر بؤسف له بالطبع كثيراً. وسيأتي بعدنا من يضيفون إلى هذا العلم البسيط الذي توصلنا اليه علماً كثيراً، ثم يتوصل من بعدهم إلى أكثر من ذلك ولا شك. ومن يدري ? فلعلهّم يتوصلون إلى كتابات جاهلية تغنيهم عن كل هذا الذي اخذناه من موارد إسلامية كتبت بعد الجاهلية بعشرات السنين. وليس لنا، وسنكون بالطبع من الماضين، إلاّ أن ندعو لمن ياتي بعدنا بالتوفيق والنجاح التام.
كانت العرب في الجاهلية على أديان ومذاهب: كان منهم من آمن بالله، وآمن بالتوحيد، وكان منهم من آمن بالله، وتعبد للاصنام، اذ زعموا أنها تقربهم اليه. وكان منهم من تعبد للاصنام، زاعمين أنها تنفع وتضر، وأنها هي الضارة النافعة. وكان منهم من دان باليهودية والنصرانية، ومنهم من دان بالمجوسية، ومنهم من توقف، فلم يعتقد بشيء، ومنهم من تزندق، ومنهم من آمن بتحكم الألهة في الإنسان في هذه الحياة، وببطلان كل شيء بعد الموت.، فلا حساب ولا نشر ولا كتاب، ولا كل شيء مما جاء في الإسلام عن يوم ا لدين.
ومذهب أهل الأخبار، أن العرب كانوا على دين واحد، هو دين ابراهيم، دين الحنيفية ودين التوحيد. الدين الذي بعث باًمر اللّه من جديد، فتجسد وتمثل في الإسلام. وكان العرب مثل غيرهم، قد ضلوا الطريق، وعموا عن الحق، وغووا بعبادتهم الأصنام. حببها لهم الشيطان، ومن اتبع هواه من العرب، وعلى رأسهم ناشر عبادة الأصنام في جزيرة العرب: "عمرو بن لحي".
وذهب "رينان" Renan إلى ان العرب هم مثل سائر الساميين الآخرين موحدون بطبعهم، وان ديانتهم هي من ديانات التوحيد. وهو رأي بخالفه فيه نفر من المستشرقين.
وقد أقام "رينان" نظريته هذه في ظهور عقيدة التوحيد عند الساميين من دراسته للالهة التي تعبد لها الساميون، ومن وجود.أصل كلمة "ال" "ايل" في لهجاتهم، فادعى ان الشعوب السامية كانت تتعبد لإلهَ واحد هو "ال" "ايل" الذي تحرف اسمه بين هذه اللهجات، فدعي بأسماء أبعدته عن الأصل، غير ان أصلها كلها هو إلَه واحد، هو الإله "ال" "ايل".
و "التوحيد" الايمان بإلَه واحد أحد لا شريك له، منفرد بذاته في عدم المثل والنظير. لا يتجزأ ولا يثنى ولا يقبل الانقسام. ويقال للديانة التي تدين بالتوحيد: Monotheism في اللغات ألأوروبية، من أصل يوناني هو Monos، بمعنى "واحد"، وTheos بمعنى "إلَه"، لأنها تقول بوجود إلَه واحد. ويتمثل القول في التوحيد في اليهودية وفي الإسلام.
والشرك في تفسير العلماء الإسلاميين، ان يجعل لله شريكأَ في ربوبيته "، غير الله مع عبادته، والايمان بالله وبغيره، فصاروا بذلك مشركين. ومن الشرك ان تعدل بالله غيره، فتجعله شريكاً له. ومن عدل به شيئاً من خلقه فهو مشرك، لأن اللّه وحده لا شريك له ولا ند له ولا نديد. ويقال له Polytheism=Polytheisums في اللغات الأوروبية. من أصل يوناني هو "Polys، ومعناه كثرة وتعداد، و Theos بمعنى "إلَه". فيكون المعنى،: القول بتعدد الالهة، أي الشرك. نقيض القول بالتوحيدMontheismus. فالشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد. ويختلف عن عقيدة ال Polydoemonism القائلة بوجود الأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، وبوجود أثر لها في حياة الإنسان، كما يختلف عن القائلين بمبدأ "الحلول" Pantheism من حيث حلول الإلهَ في الخلق والخلق في الإلهَ.
وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن العرب الأولى كانت على ملة ابراهيم، من الايمان بإلَه واحد أحد، اعتقدت به، وحجّت إلى بيته، وعظمت حرمه، وحرمة الأشهر الحرم، بقيت على ذلك، ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وابتعدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، حتى أعادهم الإسلام اليه.
ونظرية أن العرب جميعاً كانوا في الأصل موحدين، تم حادوا بعد ذلك عن التوحيد فعبدوا الأوثان وأشركوا، نظرية يقول بها اليوم بعض العلماء مثل "ويليم شميد" Wilhelm Schmidt الذي درس أحوال القبائل البدائية وأنواع معتقداتها، فرأى ان عقائد هذه القبائل البدائية الوثنية ترجع بعد تحليلها وتشريحها ودرسها إلى عقيدة أساسية قائمة على الاعتقاد بوجود "القديم الكل " أو "الأب الأكبر". الذي هو في نظرها العلة والأساس. فهو إلهَ واحد. وتوصل إلى أن هذه العقيدة هي عقيدة سبقت التوحيد، ثم ظهر من بعدها الشرك. وقد أطلق عليها في الألمانية مصطلح Urmonotheismus أي التوحيد القديم.
ويأخذ بهذه النظرية علماء اللاهوت وبعض الفلاسفة، وفي الكتب السماوبة تأييد لها أيضاً. فالشرك وعبادة الأصنام بحسب هذه النظرية، نكوص عن التوحيد، ساق اليه الانحطاط الذي طرأ على عقائد الإنسان فأبعده عن عبادة الله.
اننا لا نستطيع ان نتحدث عن عقيدة التوحيد عند العرب قبل الإسلام استناداً إلى ما لدينا من كتابات جاهلية، لعدم ورود شيء عن ذلك. فالنصوص التي وصلت إلينا، هي نصوص فيها أسماء أصنام، وليس فيها مايفهم منه شيء عن التوحيد عند العرب قبل الميلاد وبعده، إلا ما ورد في النصوص العربية الجنوبية المتاخرة من عبادة الإلهَ "ذ سموى" "ذو سموى"، أي صاحب السماء، بمعنى إلهَ السماء. وهي عبادة ظهرت متأخرة في اليمن بتأثير اليهودية والنصرانية اللتين دخلتا اليمن ووجدتا لهما أتباعاً هناك، بل حتى هذه العبا دة لا نستطيع أن نتحدث عنها حديثاً يقينياً، فنقول انها عبادة توحيد خالص تعتقد بوجود إله واحد على فهو ما يفهمه أهل القول بالتوحيد.
وقد ذكرت جملة "ذ سموى" في نص مع الإله "تالب ربمم" تالب ريام"، رب قبيلة "همدان". ويدل ذكر اسم هذا الإلَه مع اسم إلهَ آخر على ان عقيدة التوحيد لم تكن قد تركزت بعد، وانها كانت في بدء تكوينها، فلما اختمرت فيَ رؤوس القوم، ذكرت وحدها في النصوص المتأخرة، دون ذكر أسماء الأصنام الأخرى، مما يشير إلى حدوث هذا التطور في العقائد، والى ظهور عقيدة التوحيد والايمان بإلهَ السماء عند جماعة من العرب الجنوبين. وقد أكملت هذه العقيدة بأن صار إله السماء رب السماء والأرض.
ولم يكن "ذ سموى"، "ذ سمى اله"، "ذو السماء إلهَ" أي "صاحب السماء"، أو "إلهَ السماء"، أو "رب السماء"، إلَه جماعه معينة أو إله قبيلة مخصوصة، بل هو إلَه ولدته عقيدة جديدة ظهرت في اليمن بعد الميلاد على ما يظن تدعو إلى عبادة إلهَ واحد هو "ربّ السماء"، فهو إلهَ واحد مقره السماء. ويرى بعض المستشرقين أن هذه العقيدة هي نتيجة اتصال أهل اليمن باليهودية والنصرانية على اْثر دخولهما العربية الجنوبية، فظهرت جماعة تأثرت بالديانتين تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء".
وأما عبادة "الرحمن" "رحمنن"، فهي عبادة توحيد، ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد. وقد وردت كلمة "رحمنن"، أي "الرحمن"، في نص يهودي كذلك وفي كتابات "ابرهة"، وردت في نصوص عربية جنوبية أخرى وفي نصوص عثر عليها في أعالي الحجاز. وقد كان أهل مكة على علم بالرحمن، ولا شك، باتصالهم باليمن وباليهود. ولعلهم استخدموا الكلمة في معنى اللّه. وإن ذكر علماء اللغة أو علماء التفسر أن اللفظة لم تكن معروفة عند أهل مكة في الجاهلية.
وقد جاء في النص اليهودي المذكور: "الرحمن الذي في السماء واسرائيل وإلهَ اسرائيل رب يهود". وقد حمل هذا النص بعض الباحثين على القول بأن العرب الجنوبيين قد أخذوا هذه الكلمة وفكرتهم عن الله من اليهودية، وان فكرة التوحيد هذه إنما ظهرت بتأثر اليهودية التي دخلت إلى اليمن. غير ان من الباحثين من رأى خلاف هذا الرأي. رأى ان افتتاح النص بذكر الرحمن، ثم اشارته بعد ذلك إلى إلهَ يهود، وورود كلمة "الرحمن" في نص آخر يعود إلى سنة "468" للميلاد. كتبه صاحبه شكراً للرحمن الذي ساعده في بناء بيته: كل هذه وأسباب أخرى، تناقض رأي القائلين بأن عقيدة الرحمن عقيدة اقتبست من اليهود.
وقد ذكر بعض علماء اللغة ان "الرحمن" اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأول، وأن اللفظة عبرانية الأصل، وأما "الرحيم" فعربية. وذكروا ان "الرحمن" اسم مخصص باللَه، لا يجوز أن يسمى به غيره. وقد أنشدوا للشنفرى أو لبعض الجاهلية الجهلاء: ألا ضربت تلك الفتاة هجينهـا  ألا قضب الرحمن ربي يمينهاْ 
فيظهر من هذا البيت أن الشاعر كان يدين بعبادة الرحمن. ونجد مثل هذه العقيدة في قول سلامة بن جندل الطهويّ: عجلتم علينا عجلتينا عليكـم  ومايشأ الرحمن يعقدويطلق
فإن ذلك يعني أن قوماً من الجاهليين كانوا يدينون بعبادة "الرحمن". ومما يؤيد هذا الرأي ما ورد من أن بعض أهل الجاهلية سموا أبناءهم عبد الرحمن، وذكروا أن "عامر بن عتوارة" سمى ابنه "عبد الرحمَن".
وقد وردت لفظة "الرحمن" في شعر ينسب إلى "حاتم الطائي" هو: كلوا اليوم من رزق الإلهَ وأيسروا  وإن على الرحمان رزقكم غـداَ
وحاتم من المتألهة، ويعده اليعض من النصارى و "الرحمن" نعت من نعوت الله في النصرانية، من أصل "رحمونو"، Rahmono، فهل عبر شاعرنا بهذه اللفظة عن هذا المعنى النصراني ?   
"وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى ردّّ الله عليهم ذلك بقوله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى. ولهذا قال كفّار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري. وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة".
وذكر أن المشركين سمعوا النبيّ يدعو ربه، يا رينا الله ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحداً، وهو يدعو مثنى مثنى. وأن أحدهم سمع الرسول يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم فقال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة دعا الرحمن الذي باليمامة. وكان باليمامة رجل يقال له الرحمان.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن ذلك الشخص الذي زعموا انه كان يُعرف ب "رحملن اليمامة". لكنهم ذكروا ان "مسيلمة الكذاب"، كان يقال له رحمان اليمامة. فهل عنوا ب "رحمان اليمامة" مسيلمة نفسه، أم شخصاً آخر كان يدعو لعبادة "الرحمان" قبله ? وورد ان قريشاً قالوا للرسول: "انا قد بلغنا انك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدا". فنزل فيهم قوله: "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك، وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إلهَ إلا هو عليه توكلت واليه متاب". وذكر بعض أهل الأخبار: كلن مسيلمة بن حبيب الحنفي، قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين، وذلك قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله.
وورد في بعض أقوال علماء التفسير ان اليهود قالوا: "ما لنا لا نسمع في القرآن اسماً هو في التوراة كثير. يعنون الرحمان، فنزلت الاية".
ويرى المستشرقون ان عبادة "الرحمن" "رحمنن"، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم.
وقد ذكر "اليعقوبي" أن تلبية "قيسى عيلان"، كانت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمان، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان"وأن تلبية عك والأشعرين، كانت: نحج للرحمان بيتاًعجباً  مستترا ًمغبباً محجباً
وفي التلبيتين المذكورتين دلالة على اعتقاد القوم بإلهَ واحد، هو الرحمان. ولم ترد لفظة "الرحمان" إلاّ مفردة، فليس لها جمع، لأنها تعبير عن توحيد، وليس في التوحيد تعدد، فالتعدد شرك. على عكس لفظة "رب"، التي تؤدي معنى إله"، وهي تعبير عن اعتقاد، لا اسم علم لإله، ولذلك وردت لفظة "أرباب" بمعنى آلهة تعبيراً عن تعدد الآلهة، وهو الشرك. وقد كان الجاهليون يقولون: ربيّ وربك وربنا وأربابنا، كما يقولون إلهي وإلاهلك وآلهتنا.
وقد تكون كلمة "ه رحم" "هارحيم"، أي الرحيم" الواردة في النصوص الصفوية وفي النصوص السبئية اسم إلَه، وقد تكون صفة من صفات الآلهة على نحو ما تؤديه كلمة "الرحيم" من معنى في الإسلام.
وللعلماء آراء في ظهور عبادة الشرك. ورأي رجال الدين منهم، ان الناس كانوا أمة واحدة في الدين، كانوا على التوحيد جميعاً، ثم ضلّوا فعبدوا جملة آلهة وصاروا مشركين. أما غيرهم من العلماء الذين يستندون إلى الملاحظات ودراسة أحوال القبائل البدائية وعلى فروع العلوم الأخرى المساعدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع، فيرون ان عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالنسبة إلى ظهور الوثنية والشرك. ظهرت بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم يكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك، إلى أن اهتدى إلى عبادة إلهَ واحد.
ظهور الشرك
هناك عدة عوامل دعت إلى ظهور الشرك، أي تعدد الآلهة، وأثرت في تعدد الآلهة. هناك عوامل طبيعية وعوامل رسيّة Characteristics، وعوامل سياسية وعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وعو امل اخرى، كل هذه أثرت في شكل الشرك وفيِ تعدد الآلهة وفي كيفية تصور الناس لآلهتهم. ولا يعني هذا انها اثرت كلها مجتمعة وفي آن واحد، إنما يعنى ان ظهور الشرك وشكله هو نتيجة غوامل متعددة واسباب مختلفة أثرت في ظهوره وفي تكوين صورة الآلهة في نظر المؤمنين بها المتعبدين لها.
وإناّ لنجد وجهة نظر الشعوب عن الآلهة أو الإلَه تختلف باختلاف ثقافتها ومستواها الاجتماعي، وللوضع السياسي دخل كبير في الشرك وفي عدد الالهة وفي شكل الدين. لقد كان لكل قبيلة إلهَ خاص بتلك القبيلة يحميها من الأعداء ومن المكاره، ويدافع عنها في الحروب والملمات، ويعطيها النصر. كما كان للقرى والمدن آلهتها الخاصة بها. فإذا تحالفت القبائل أو القرى أو المدن تحالفت آلهتها معها، وكوّ نت حلفناً وصداقة متينة بينها. أما إذا تحاربت هذه القبائل أو القرى او المدن، فيكون لهذه الحرب أثر كببر في مستقبل الآلهة وفي عددها. فقد ينصرف المغلوبون عن آلهتهم إلى عبادة آلهة أخرى، لأنها أصبحت ضعيفة لا قدرة لها على الدفاع عن عَبدَتها. وقد يتأثر الغالبون بعبادة المغلوبين الذين خضعوا لهم، فيضيفون آلهة المغلوبين إلى آلهتهم، فيزيد بذلك عدد الآلهة، ولا سيما إذا كان المغلوبون أصحاب ئقافة عالية، وكان لهم ادب وفن.
والعادة أن آلهة القبائل أو المدن الرئيسية تكون هي الآلهة الرئيسية للحلف أو في المملكة. ويكون إلَه القبيلة ذات النفوذ أو العاصمة عندئذ، هو إلهَ الحكومة الكبير. أما الالهة الأخرى، فتكون دونه في المنزلة، ولهذا يرد اسمها في الغالب بعد اسم الإلهَ الكبير.
كذلك يجب ألاننسى عامل الجوار والاتصال الثقافي في ظهور الشرك، فكثيراً ما يؤدي هذا الاتصال إلى اقتباس آلهة المجاورين واضافتها إلى مجموعة الآلهة عند ذلك الشعب، فيزيد بذلك عدد الالهة أو ينقص. فقد تطغى الألهة الجديدة المقتبسة على الآلهة القديمة، ويقّل شأن بعضها فيهمل، ثم يموت اسمها. وقد يحدث ذلك بطريق الحرب أيضاً، كما ذكرت، فيتغير العدد بذلك.
ولرجال الدين ولسادات القبائل ع وللأمراء وللملوك أثر في ظهور الشرك. كان في إمكانهم اقرار مستقبل الألهة بإضافة آلهة جديدة على الآلهة القديمة، أو بابعاد إله " أو آلهة عن عبادة قومهم، فيزيد أو ينقص بذلك عدد ألآلهة. وقد كان سادات القبائل والوجوه يغيرّون عبادة أتباعهم بإدخال عبادة إلَه جديد، يأخذونه من زيارتهم لبلد غريب، كأن يكون أحدهم قد أصيب بمرض وهو في ذلك البلد، فيشار عليه بالتعبد وبالتقرب لإله ذلك البلد أو لأحد آلهته، فيصادف أن يشفى، فيظن أنه شفى ببركة ذلك الإله وبقدرته وقوته، فيتقرب له ويتعبد له، فإذا أعاد حمل عبادته إلى أتباعه، فيعبد عندهم. ويضاف على آلهتهم، ويصير أحدهم وقد يطغى اسمه عليها، وذلك حسب درجة تعلق سيد القبيلة به، وحسب درجة ومكانة" سيد القبيلة بين الناس. وتأريخ الجاهلية مليء بحوادث تبديل آلهة بسبب تبديل سادات القبائل ووجوه الناس لعقائدهم ولآلهتهم، فتدخل القبيلة كلها في العبادة الجديدة. وقد كان اسلام قبائل برمتها، بسبب دخول سيدها في الإسلام، فالناس تبع لساداتهم ولقادتهم، و " الناس على دين ملوكهم " كما هو معروف ومشهور في أقوال العرب.
ومعظم أسماء الآلهة صفات للآلهة لا اسم علم لها، فودّ ورضى والمقه وذات حميم وأمثالها، هي صفات في الأصل، مضى عليها الزمن، فاستعملت استعمال الأسماء الأعلام. وظن أنها آلهة قائمة بذاتها. فلما جاء الباحثون وجمعوها حسبوها أسماء آلهة، فزاد بذلك عدد الآلهة، واعتبرت الأسماء الكثيرهّ من سيماء الإفرإط في الشرك. بينما هي صفات لإلهَ، أو آلهة لا يزيد عددها على ثلاثة، هي الثالوث الكواكبي المقدس الذي تعبدوا له.
ولا بد لنا من الإشارة إلى اصطلاح أطلقه "ماكس مولر" Max Muler على مرحلة من العبادة هي بين بين، لا هي توحيد Monotheism ولا هي شرك Polytheism، بل هي مرحلة تعبد فيها الإنسان على رأى هذا الباحث إلى إله واحد هو إلَه القبيلة، مع الاعتقاد بوجود آلهة أخرى. وهذا الاصطلاح هو Henotheismus. وقد رأى "فلاّ يدلر" Pfleidler أن الساميين لم يكونوا-موحدين بطبعهم كما ذهب "رينان" إلى ذلك، بل كانوا يدينون بإلهَ قومي، ومن هذه العقيدة ظهر التوحيد الخالص كما حدث عند الاسرائيليين.
وفي القرآن الكريم إشارات إلى أنواع من الشرك كان عليه الجاهليون، وفيه تعريف لمعنى الشرك، فالشرك في قوله تعالى: )أيشركون ما لايخلق شيئاًوهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون( عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة أو الخشب أو المعادن، أي مما لا روح له وقابل للكسر. وفي بعض الآيات أن من أنواع الشرك القول بأن الجن هم شركاء لله. ومن أنواعه أيضاً القول بأن الملائكة هم شركاء لله وبناته. وفي آيات أخرى.ان من الشرك اتخاذ آلهة أخرى مع الله. والالهة هنا شيء عام. فيه تاًليه الكواكب وعبادة الأشياء غير المنظورة، أي غير المادية وعبادة الأصنام.
وفي القرآن الكريم جواب عن فلسفة القوم وتعليلهم لعبادة الأصنام واتخاذهم "أولياء" من دون الله، إذ يقولون جواباً عن الاعتراض الموجه اليهم في عبادة غر الله: )والذين اتخذوا من دونه أولياء. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. ان الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون"(. ويتبين من هذه الاية ومن آيات أخرى ان فريقاً من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وانه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم، ولكنهم عبدوا الأصنام وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء لتقربهم إلى الله زلفى.
وفي كتاب الله مصطلحات لها علاقة بعبادة الشرك، منها "شركاء" جمع "شريك"، وهو من اتخذه المشركون شريكاً مع الله. و "أنداد" "ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله" " وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله. قل: تمتعوا، فإن مصيركم ا إلى النار". و "أولياء" و "وليّ" و "ولياً" و "شفعاء" و "شهداء". فهذه الكلما ت وأمثالها تعبر عن عقائد الجاهليين قبيل الإسلام. وعن اعتقادهم في عبادة أشياء اخرى مع الله كانوا يرون انها تستحق العبادة، وانها في مقابل الله في العرف الإسلامي، أو انها شركاء في ادارة الكون أو انها مساعدة لله.
والشرك في تفسير العلماء المسلمين، أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكاً له. فهو يشمل أشياء عديدة. منها عبادة الكواكب، أي عبادة القوى الطبيعية، وعبادة الجن والملائكة والأمور الخفية، ويمعنى آخر عبادة القوى الخفية، أو القوى الروحية، وعبادة الأمور المادية كالأصنام والأحجار، باعتبار انها تشفع للانسان عند الالهة، وعبادة الإنسان والحيوان، إلى غير ذلك من عبادات.
ومن العبادات التي يجب أن يشار اليها عبادات اصطلح علماء الأديان على تسميتها بمسميات حديثة، تمثل عقائد قديمة، ولبعضها أتباع أحياء يرزقون. ولبعض منها آثار ومظاهر، دخلت في الأديان الباقية، وصبغت بصبغتها، وهي من بقايا العقاثد الدينية البدائية التي رسخت في النفوس وفي القلوب حتى صار من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها، فبقيت راسخة تحت مسميات جديدة. ومن تلك العقائد: ال Shamanism و Tatemism،و Fetishism، و Ancestor-worshipوAnimism، وغيرها من مسميات سيرد الحديث عنها في هذا الكتاب.
أما اد "شمانية"، فقد أخذت من كلمة "شمن" Saman ومعناها كاهن أو طبيب "شمان"، أو من كلمة Shemen التي معناها صنم أو معبد، أو من أصل آخر. ويراد بها اليوم ديانة تعبد بالشرك، أي تعدد الآلهةPolythesim، أو بعبادة الأرواحPolydomonism مع عبادة الطبيعة Nature - worship لاعتقادها بوجود أرواح كامنة فيها. ويعتقد في هذا الدين أيضا بوجود إلهَ أعلى هو فوق جميع هذه الأرواح والقوى المؤلهة، وبتأثير السحر.
ويستعين ال "شمن"، وهو الكاهن أي رجل الدين، بالقوى الخارقة التي لديه والتي لا يملكها الرجل الاعتيادي في اعتقاد أبناء هذه العقيدة في الاتصال با الأرواح وبما وراء الطبيعة للتأثير فيها. ولدى هذا الكاهن أرواح مأمورة بين يديه للقيام بما يطلب منها القيام به. وهو يمارس أعمالاً سحرية للتأثير في الأرواح. فالسحر في هذا الدين أهمية ومقام. ويقوم ال "شمن" عند أكثر المتدينين بهذا الدين بأعمال اطبيب.
وأما "الطوطمية"، فقد تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب..وقد بينت عقيدتها في "الطوطم"، ورأي ألعلماء في كيفية ظهور المجتمع "الطوطمي"، وهو مجتمع يقوم على أساس الجماعة أو القبيلة، يرتبط أفراده برباط ديني مقدس، هو رباط "الطوطم"، رمز الجماعة.
وأما ال Fetishism من أصل Factitus، بمعنى السحر، اي القوة المؤثرة الخفية،Magic، فالباحثين في تاًريخ الأديان آراء متعددة في تعريفها وفي تثبيت حدودها. والرأي الغالب الشائع بينهم انها عبادة أو تقديس للأشياء المادية الجامدة التي لا حياة فيها لاعتقاد أصحابها بوجود قوة سحرية فيها ؛ وقوى غير منظورة في تلك الأشياء تلازمها ملازمة مؤقتة أو دائمة. ويحمل Fetish "البد" لجلب السعد إلى صاحبه. وهو في نظر "تيلور" Dr. Tylor بمثابة "إله البيت" وقوة فاعلة خفية تطرد الخبائث. عن صاحبه، وتجلب الخير له. ولحدوث الأحلام ونشوئها في نظر الأقوام البدائية دخل كبير في رأي العلماء في ظهور هذه العقيدة.
وأصحاب هذه العقيدة لا ينظرون الى تلك الأشياء المادية على انها نفسها ذات قوة فعالة خفية، وانها الرمز أو الصورة للالهَ المنسوب ذلك الشىء اليه، بل هم يرون ان تلك الأشياء لسمت سوى منازل أو مواضع لاستقرار تلك القوى المؤثرة التي يكون لها دخل في إسعاد الإنسان. وهو يقدس الأشياء المادية كالحجارة مهما كانت صغيرة أو كبيرة، مهندمة ومصقولة صقلتها يد الإنسان، ومستها أو لم تمسها يد، بل كانت على نحو ما وجدها في شكلها الطبيعي لأنه حينما يتقرب إلى تلك الحجارة، لا يتقرب اليها نفسها، بل يتقرب إلى الروح التي تحل فيها.
فالروح هي المعبودة، لا الحجر الذي تحل الروح فيه، وليس الحجر أو المواد الأخرى إلا بيتاً أو فندقاً تنزل الروح فيه.
أما عبادة الأسلافAncestor worship، فهي فرع من أهم فروع، الدين في نظر بعض العلماء، بل هي الأساس الذي قام عليه الدين،في نظر آخرين،ولا سيما عند "سبنسر" H. Spencer. وأما الأسباب التي دعت البشر إلى هذه العبادة، فهي الحب والتقدير للابطال والرؤساء والأمل في استمرار دفاعهم عنهم وحمايتهم للجماعة التي تنتمي اليها كما كانت تفعل في حياتها وردّ أذى الاعداء الأموات منهم والأحياء. فتمجيد الأبطال والخوف منهم، هو الذي حمل البشر على عبادة الأسلاف، على رأي. وهناك من رأى إن تمجيد الأبطال والاشادة بذكرهم، هو الذي أوجد هذه العبادة، ومنهم من نسبها إلى الخوف منهم حسب.
وسواء أكان منشأ هذه العبادة الحب والتقدير أو الخوف أو كلاهما،فأن. أساس هذه العقيدة هو إلايمان ببقاء الروح، روح إلميت، وان بإمكان هذه الروح نفع الأحياء أو إلحاق الأذى بهم. ورؤية الأحياء وّسماع توسلاتهم ودعواتهم لها.
فالميت وإن كان قد دفن،في قبره وغيب بين التراب، إلآ انه يسمع ويعي، فروحه حية وبإمكانه النفع والضر. وهذه العقيدة هي التي حملت بعض الشعوب على مخاطبة الأرواح من فجوات مخصوصة في الأرض ومن مواضع أخرى لاستشارتها في بعض الأمور التي تهمها، وللتحدث معها ?في مسائل خطيرة كتقديم مشورة أو أخذ رأي أو استفسارعن اسم قاتل أو سارق. ولهذه الغاية اتخذت مواضع مقدسة Oracle يتقرب فيها إلى الأرواح وللاستفسار منها. فكان في اليونان مثلاً موضع شهير عرف بإسمThesprotia، وموضع آخر عرف بأسمPhigalia في "أركاديا" Arcadia. وكان في ايطاليا موضع للتنبؤ يقع على بحيرة "أفبرنوس"Avernus وكانت العامة في هذا الموضع أن يتقرب الراغبون في استشارة الأرواح إلى الموضع المقدس بتقديم ضحية، وعندئذ ينام الساثل في الموضع المقدس، فتظهر له الروح في المنامء، فتحدثه بما يحتاج اليه.
ولعبادة السلف علاقة بعبادة الأصنامIdolatry. ويلاحظ ان عبادة السلف تقود أتباعها في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بأن قبيلتهم تنتمي إلى صلب جد واحد، أصله حيوان في رأي الأكثرين، أو من النجوم في بعض الأحيان. وهذا مايجعل هذه العقيدة قريبة من "الطوطمية".
ولهذه العبادة أثر كبير في نظام أصحابها الاجتماعي، إذ هي تربط الأجيال الحاضرة بالأجيال الماضية بروابط متينة، وتؤلف من أصحاب هذا المذهب وحدة قوية، كما ان لها أثراً مهماً في الأسرة، فهي في الواقع عبادة تخص الأسرة قبل كل شيء.
ومعارفنا عن عبادة السلف عند الجاهليين قليلة، ويمكن أن نستنتج من أمر النبي بتسوية القبور ونهيه عن اتخاذها مساجدَ ومواضع للصلاة ان الجاهليين كانوا يعبدون أرواح أصحاب هذه القبور ويتقربون اليها. ولعل في عبارة "قبر ونفس" أو "نفس وقبر" الواردة في بعض النصوص الجاهلية ما يؤيد هذا الرأي، فإن النفس هي الروح.
ومن اثار عبادة السلف عند العلماء حلق الرأس وإحداث جروح فئ الجسد واحتفالات دفن الموتى ولبس المسوح والعناية بالقبور والصلاة عليها أو إقامة شعائر دينية فوقها أو علإمات خاصة بالميت أو الموتى للتقديسْ. ونحن اذا استعرضنا روايات الأخباريين. نجد آثار هذه العبادة معروفة بين الجاهليين.
وقد أشار أهل الاخبار إلى قبور اتخذت مزارات،كانت لرجال دين ولسادات قبائل يقسم الناس بها، ويلوذون بصاحب القبر ويحتمون به، كالذي كان من أمر ضريح "تميم بن مرّ "، جدّ "تميم"، وكالذي ذكروه من أمر "لللات" من أنه كان رجلاً في الأصل، اتخذ قبره معبداً ثم تحول الرجل إلى صنم. ونجد في كتب الحديث نهياً عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها. وقد أشارت إلى اتخاذ اليهود والنصارى قبور سادتهم وأوليائهم مساجد، تقربوا اليها، لذلك نهي أهل الإسلام من التشبه بهم في تعظيم القبور، كما نهى عن تكليل القبور وتجصيصها، والتكليل رفع القبر وجعله كالكلّة، وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور.
وأما Animism، فهو اعتقاد بوجود أرواح مؤثرة في الطبيعة كلها Nature، ولذلك يؤله كثيراً من المظاهر الطبيعية المرئية وغير المرئية منها، لاعتقاده بوجود قوى هي فوق الطبيعية، منها ما يكون في جسم، وهو "النفس" Saul منها ما لا يكون في الأجسام وهو "الروح" Spirit.
ويمكن تقسيم هذه للعبادة إلى ثلائة أصناف: عبادة النفس، نفس الإنسان أو الحيوان وخاصة منها عبادة الأموات Necrology، وعبادة الأرواح Spiritism، وعبادة الأرواح التي تحلّ في المظاهر الطبيعية، إما بصورة مؤقتة وإما بصورة دائمةNaturism.
والاراء في هذه المعتقدات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي موضع جدل بين العلماء، لأنها قائمة على أساس الملاحظات والتجارب التي حصلوا عليها من دراساتهم لأحوال المجتمعات البدائية لهنود امريكا ولقباثل افريقية واسترالية، ولا يمكن بالطبع حدوث اتفاق في الدراسات الاستقصائية المبنية على المشاهدات والملاحظات. وإذ كانت هذه الدراسات غير مستقرة وغير نهائية حتى الآن، فقد صعب بالطبع تطبيقها على معتقدات العرب قبل الإسلام، وزاد في هذه الصعوبة قلة معلوماتنا في هذه الأمور. وليس من الممكن في نظري أن نتوصل إلى نتائج علمية غير قابلة للاخذ والرد في هذه الموضوعات في الزمن الحاضر، بل ولا في المستقبل القريب، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان، من ألعثور على نصوص دينية تكشف لنا عن عقائد الجاهليين.
ونستطيع ان نقول إجمالاً ان من الجإهليين من كان يدين بعبادة الأرواح على اختلاف طرقها، وبؤمن بأثرها. وللعلماء من مفسريَن ولغويين وغيرهم تفاسير عديدة للروح، تفيدنا كثيراً في معرفة آراء الجاهليين عنها، كما ان للاخبارين قصصاً عنها وعن استقلالها وانفصالها عن الجسد بعد الموت واتصالها بالقبر وغير ذلك، يمكن أن تكون موضوع دراسة قيمة لمن يربد التبسط في دراسة هذه ا لأمور.
عبادة الكواكب
وقد رأى بعض العلماء ان عبادة أهل الجاهلية هي عبادة كواكب في الأصل. وأن أسماء الأصنام والالهة، وإن تعددت وكثرت، إللا انها ترجع كلها إلى ثالوث سماوي، هو: الشمس والقمر والزهرة. وهو رمز لعائلة صغيرة، تتألف من أب هو القمر، ومن أم هي الشمس، ومن ابن هو الزهرة. وذهبوا إلى أن أكثر أسماء الالهة، هي في الواقع نعوت لها، وهي من قبيل ما يقال له الأسماء الحسنى لله في الإسلام.
وقد لفت الجرمان السماويان: الشمس والقمر، نظر الإنسان اليهما بصورة خاصة، لما أدرك فيهما من أثر في الإنسان وفي طباعه وسحنه وعمله، وفي الجو الذي يعيش فيه، وفي حياة زرعه وحيوانه، وفي تكوين ليله ونهاره والفصول التي تمر عليه. فتوصل بعقله يوم ذاك إلى انه نفسه، وكل ما يحيط به، من فعل هذين الجرمين ومن أثر أجرام أخرى أقل شأناً منهما عليه. فنسب اليها نموه وتكوينه وبرءه وسقمه، وحياة زرعه وماشيته، ورسخ في عقله انه إن تقرب وتعبد لهما، ولبقية الأجرام، فإنه سيرضيها، وستغدق عليه بالنعم والسعادة والمال والبركة في البنين، فصار من ثم عابد كوكب.
ونجد في حكاية كيفية اهتداء "ابراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيراً لسبب تعبد الإنسان للأجرام إلسماوية. )وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً الهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نُري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جنّ عليه الليل، رأى كوكباً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت، قال: يا قومِ إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين (. فقد لفت ذلك الكوكب نظر ابراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخالب، فتعبد له، واتخذه رباً، فلما أفل، ورأى كوكباً آخر أكبر حجماً وأجمل منظراً منه، تركه، وتعبد للكوكب الاخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجماً وأظهر أثراً وأبين عملاً في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوّه ومحيطه، ترك القمر وتعبّد للثسس، فيكون قد تعبّد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشتري أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين.
ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للاجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه: ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابناً للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين واعتبر الجاهليون القمر أباً في هذا إلثالوث، وصار هو الإلهَ المقدم فيه، وكبير الألهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب، وعلى الذهاب إلى لن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجدة في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن تجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين.
ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر ين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقدم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم والى التبآين في الثقافة، ففي العربية الجنويية يكون القمر هادياً للناس ومهدئاً للاعصاب، وسميراً لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حرّ شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعال من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقاً، فلا عجب إذا ما دعيت ب "ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عنداللعرب الجنوبيين. ولذلك، لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. واذا كَانت الشمس مصدراً لنموّ النباتات نموّاً سريعاً في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهّاجة المحرقة تقَفُ نموّ أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير.
ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربين والعرب الجنوببين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدواً مدة طوبلة بالقياس الى البابليين. ويلاحظ أيضاً أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نريده عند البابليين.
ونجد في حكاية كيفية اهتداء "ابراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيراً لسبب تعبد الإنسان للأجرام إلسماوية. )وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً الهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نُري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جنّ عليه الليل، رأى كوكباً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت، قال: يا قومِ إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين (. فقد لفت ذلك الكوكب نظر ابراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخالب، فتعبد له، واتخذه رباً، فلما أفل، ورأى كوكباً آخر أكبر حجماً وأجمل منظراً منه، تركه، وتعبد للكوكب الاخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجماً وأظهر أثراً وأبين عملاً في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوّه ومحيطه، ترك القمر وتعبّد للثسس، فيكون قد تعبّد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشتري أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين.
ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للاجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه: ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابناً للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين واعتبر الجاهليون القمر أباً في هذا إلثالوث، وصار هو الإلهَ المقدم فيه، وكبير الألهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب، وعلى الذهاب إلى لن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجدة في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن تجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين.
ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر ين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقدم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم والى التبآين في الثقافة، ففي العربية الجنويية يكون القمر هادياً للناس ومهدئاً للاعصاب، وسميراً لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حرّ شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعال من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقاً، فلا عجب إذا ما دعيت ب "ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عنداللعرب الجنوبيين. ولذلك، لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. واذا كَانت الشمس مصدراً لنموّ النباتات نموّاً سريعاً في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهّاجة المحرقة تقَفُ نموّ أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير.
ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربين والعرب الجنوببين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدواً مدة طوبلة بالقياس الى البابليين. ويلاحظ أيضاً أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نريده عند البابليين.
والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت اليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التاًثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظورهّ كامنة فيها، فعبدها وألّهها، وشاد لها المعابد، وقدّم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للاحجار والنباتات والأرواح.
وقد تعبّد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم الى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت ب "بيت شمس" Beth Shemesh.
والشمس أنثى في العربية، فهي إِلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكر، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى " ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين. وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدلّ على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو"أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط.. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات". فلعل "سترابو" قصد ب Helios اللات. وإذا كان هذا صحيحاً، فتكون اللات هي الشمس.
والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا ب "عبد شمس".
وقد ذكر إلأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر، لأنه أول من عبد الشمس، فدعي ب" عبد شمس". وقد ذكر ان بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أدّ كلها: ضَبّة، وتميم، وعديّ، وعُطل: وثور، وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن ين معاوية ين شُريف بن حروة ابن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن.
وذكر أن "عبد شمس"، اسم أُضيف إلى شمس السماء، لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي." وكانت العرب تسميّ الشمس "الإلهة" تعظيماً لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر: تروّحنا من اللعباء قسراً  فاعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
على مثل ابن مية فانعياه  تشق نواعم البشر الجيوبا 
ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام.
وعرفت الشمس ب " ذُكاء" عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابناً للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجباً لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها.
وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر " الأسقع " الليثي، انه خرج إلى والده، فوجده جالساً مستقبل الشمس ضحى، وإذا تذكرنا ما أورده اهل الأخبلر عن صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة.
وقد لاحظ بعض السياح ان آثار عبادة الشمس والقمر لاتزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل،حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيماً يشيرإلى انه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين.
ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر. وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والأبن وهو الزهرة، والأم وهي الشمس.
والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت اليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التاًثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظورهّ كامنة فيها، فعبدها وألّهها، وشاد لها المعابد، وقدّم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للاحجار والنباتات والأرواح.
وقد تعبّد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم الى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت ب "بيت شمس" Beth Shemesh.
والشمس أنثى في العربية، فهي إِلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكر، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى " ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين. وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدلّ على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو"أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط.. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات". فلعل "سترابو" قصد ب Helios اللات. وإذا كان هذا صحيحاً، فتكون اللات هي الشمس.
والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا ب "عبد شمس".
وقد ذكر إلأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر، لأنه أول من عبد الشمس، فدعي ب" عبد شمس". وقد ذكر ان بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أدّ كلها: ضَبّة، وتميم، وعديّ، وعُطل: وثور، وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن ين معاوية ين شُريف بن حروة ابن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن.
وذكر أن "عبد شمس"، اسم أُضيف إلى شمس السماء، لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي." وكانت العرب تسميّ الشمس "الإلهة" تعظيماً لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر: تروّحنا من اللعباء قسراً  فاعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
على مثل ابن مية فانعياه  تشق نواعم البشر الجيوبا 
ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام.
وعرفت الشمس ب " ذُكاء" عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابناً للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجباً لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها.
وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر " الأسقع " الليثي، انه خرج إلى والده، فوجده جالساً مستقبل الشمس ضحى، وإذا تذكرنا ما أورده اهل الأخبلر عن صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة.
وقد لاحظ بعض السياح ان آثار عبادة الشمس والقمر لاتزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل،حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيماً يشيرإلى انه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين.
ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر. وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والأبن وهو الزهرة، والأم وهي الشمس.
ويذكرون أن بعض طيء عبدوا " الثربا "،وبعض قبائل ربيعة عبدوا "المرزم"، وأن "كنانة" عبدت القمر. ويتبين من بعض الأعلام المركبة، مثل: عبد الثريا، وعبد نجم، أن الثريا ونجماً، كانا صنمين معبودين في الجاهلية. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن " النجم " المذكور في سورة " النجم ": )والنجم اذا هوى( : الثريا "والعرب تسمي الثريا نجماً". وقال بعض آخر: "إن النجم ههنا الزهرة، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها".
وعبدَ بعض الجاهليين " المريخ "، واتخذوه إلهاً، كما عبد غيرهم "سهيلا "Canapus و "عطارد" Merkur و "الأسد" Lion و "زحل".
وقد ذكر أهل الأخبار، ان أهل الجاهلية يجعلون فعلا للكواكب حادثاً عنه. فكانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وكأنوا يجعلون لها أثراً في الزرع وفي الإنسان، فاًبطل ذلك الإسلام، وجعله من أمور الجاهلية. جاء في الحديث: " ثلاث من أمور الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنباحة، والاستسقاء بالأنواء".
ومن مظاهر الشرك المتجلي في التعبد للأمور الطبيعية الملموسهّ، عبادة الشجر، وهي عبادة شائعة معروفة عند الساميين. وقد أشار "ابن الكلبي" إلى نخلة " نجران"، وهي نخلة عظيمة كان أهل البلد يتعبدون لها، " لها عيد في كل سنة. فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحليّ للنساء، فخرجوا اليها يوماً وعكفوا عليها يوما ". ومنها العزى وذات أنواط. يحدثنا أهل الأخبار عن ذات أنواط، فيقولون: " ذالت أنواط: شجرة خضراء عظيمة، كانت الجاهلية تأتيها كل سنة تعظيماً لها، فتعلق عليها أسلحتها وتذبح عندها، وكانت قريبة من مكة. وذكر انهم كانوا إذا حجّوا، يعبقون أرديتهم عليها، ويدخلون الحرم بغير أردية، تعظيماً للبيت،ولذلك سميت ذات انواط.
وقد روي ان بعض الناس قال يا رسول الله، اجل لنا ذات انواط كما لهم ذات أنواط. ونستطيع أن نقول إن آثار عبادة الشجر لا تزال باقية عند الناس. تظهر في امتناع بعضهم وفي تهيبهم من قطع بعض الشجر، لاعتقادهم أنهم إن فعلوا ذلك أصيبوا بنازلة تنزل بهم ويمكروه سيحيق بهم. ولذلك تركوا يعض الشجر كالسدر فلم يتعرضوا له بسوء.
وتعبد بعض أهل الجاهلية لبعض الحيوانات. فقد ورد أن جماعة الشاعر "زيد الخيل"، وهم من طيء، كانوا يتعبدون لجمل أسود. فما وفد وفدهم على الرسول، قال لهم: "ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله عزّ وجل. وورد أن قوماً كانوا بالبحرين عرفوا ب "الأسبذين"، كانوا يعبدون الخيل. ذكر أنهم قوم من المجوس، كانوا مسلحة لحصن المشقر من أرض البحرين. فهم فرس. وأن بعض القبائل مثل "إياد"، كانت تتبرك بالناقة".
الشفاعة
والشفاعة من أهم مظاهر الشرك عند الجاهليين. وأقصد بالشفاعة هنا، ما ورد في القرآن الكريم من تبرير أهل الجاهلية لتقربهم إلى الاْصنام بأنهم ما يتعبدون لها إِلا-لتقربهم إلى الله: )ويعبدون من دون الله مالا يضرًهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله(. )والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللهَ زلفى. إنّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون(. فهم يحاجّون الرسول، ويَدافعون عن التقرب إلى الأصنام، بقولهم: إِنها تشفع عند الله، فهي شفيعة، فهم لا يعبدرن الأصنام إذن، ولا يشركون بالخالق، وإنما هم يتقربون اليه بها. فهي الواسطة بينهم وبين الله.
الأصنام
ومن جملة ما كان يتوسط به الجاهليون لالهتهم ليكونوا شفعاء لهم عندها، التمائبل المصنوعة من الفضة أو الذهب أو الحجارة الثمينة والخشب. ومن عادتهم انهم كانوا يدونون ذلك على الحجارة، فيكتبون عدد الماثيل وأنواعها وأسماء الآلهة أو اسم الإلهَ الذي قدمت له تلك الأشياء واسم الناذر، ويشار الى السبب الداعي إلى ذلك، كان يذكر بأن أصحابها توسلوا إلى الإلهَ أو الألهة المذكورة برجائهم الذي طلبوه، فأجيبت مطالبهم، ولذللك قسموا هذه النذور، فهي وفاء لدين استحق عليهم بسبب ذلك النذر وتلك الشفاعة.
ولا بد لنا من الاشارة هنا إلى ان الأصنام كانت تدافع عن قبائلها وتذب عنها وتحامي عنها في الحرب، كما يدافع سيد القبيلة عن قبيلته، وان أبناء القبيلة و أبناؤها وأولادها، ولذللك كانوا يقولون عنها "اب" "أب" في كتاباتهم، ويكتبون عن أنفسهم "أبناء الصنم...". وفي الشعر الجاهلي أمثلة عديدة تشير إلى اعتقاد القوم باشراك آلهتهم معهم في الحرب وفي انتصارهم لهم. ففي الحرب التي وقعت بين "بني أنعم" و "بني غطيف" بشاًن الصنم "يغوث"، يقول الشاعر: وسارَ بنا يغوثُ إلى مراد  فناجزناهمُ قبل الصباح
وطبيعي أن يعد أغداء القبيلة أعداء لصنم القبيلة، وأعداء الصنم أعداء للقبيلة، فأعداء الآله وأعداء القبيلة هم خصوم لا بمكن التفريق بينهم.
وفي معركة أَحد، وهي من المعارك الحربية المهمة التي جرت بين الإسلام والوثنية على مستقبل العرب الديني، نادى أبو سفيان بأعلى صوته: "اعلُ هُبْل ! علُ هبل !"، ليبعث الحماسة في نفوس الوثنيين، وليستغيث بصنمه في الدفاع عن أتباعه المؤمنين به. أما المسلمون، فاستنجدوا بالله، إذ ردّوا عليه رد"ة قوية عالية: "الله أعلى وأجل". فقال أبو سفيان: "ألا لنا العزى ولا عُزى لكم". فاًجابه المسلمون: " الله مولانا ولا مولى لكم ".
وفي الحروب يحارب كل إله عن قبيله، ويجهد نفسه في الدفاع عنها في سبيل حصولها على النصر. ولهذا السب كانت القبائل والجيوش تحضر أوثانها أو صور آلهتها أو رموزها الدينية المقدسة معها في الحروب. تتبرك بها وتستمد منها العون والنصر. ولما حارب الأعراب الملك "سنحاريب" ملك آشور، حملوا أصنامهم: "دبلت" "دبلات" Diblat، و "دية" Daia=Daja و "نوخيا" Nuhaia و "ابير يلو" Ebirilla "عثر قرمية" Atar Kurumaia معهم لتدافع عنهم،ولتحارب معهم الاشوريين. ولكن الآشوريين غلبوهم وانتصروا عليهم واخذوا غنائم وأسرى منهم، كان في جملتها هذه إلأصنام المسكينة، التي وقعت في الأسر وبقيت في أسرها إلى أن توفي "سنحاريب" وتولى ابنه "أسرحدون" الحكم، فاسترضى الأعراب هذا الملك وجاءوا بهدايا كثيرة، رجاء استرضائه لإعادة أصنامهم اليهم، فرقّ على حالهم وأعاد اليهم تلك الأصنام السيئة الحظ، التي كتب عليها أن تسجن،وتمكنت من استنشاق ريح الحرية من جديد. وسقطت أصنام الأعراب مرة أخرى في أسر الآشوربين، وذلك في أيام "أسرحدون"، فلما انضم "لبلي" "ليل" Laili ملك "يادي" "يادع" "يدي" "يدع" Jadi=Jadi إلى الثاثرين على حكم هذا الملك، لحقت بهم الهزبمة، وسقطت أصنامه أسيرة في أيدي الآشوريين، وأخذت إلى "نينوى"، فلم يجد الملك "ليل" "ليلي" أمامه من سبل سوى الذهاب إلى عاصة الملك لاسترضائه، حيث طلب العفو والصفع عما بدر منه، فقبل "أسرحدون" منه ذلك، وتآخى معه، وأعاد اليه أصنامه.
وكان في جملة الأصنام التي شاء سوء طالعها الوقوع في أسر الاشورين الصنم اتر سمين" "اترسما ئن" "A-tar-sa-ma-a-in"Atarsamin". و "اتر" هو "عتر"، فيكون المراد به "عتر السماء" عتر السماوات، ويدل ذلك على أنه إلَه السماء. وكان قد وقع أسيراً في أيديهم ايام الملك "أسرحدون"، فلما توفي الملك وانتقل عرشه إلى ابنه "أشور بانبال"، جاء Uaite العربي اليه، وهو أحد سادات القبائل إلى الملك،وصالحه وأرضاه، فأعاد اليه أصنامه ومنها الصنم ا لمذكور.
وطالما كان يعرض حمل المحاربن أصنامهم معهم في الحروب إلى وقوع تلك الأصنام في الأسر، تقع كما يقع الإنسان في الأسر. بل يكون أسر الأصنام في نظرهم أشدّ وقعاً في نفوسهم من أسر الإنسان. إنها آلهة تدافع وتحامي، إنها آلهة القبيلة كلّها، فأسرها معناه في عرفهم أسر القبيلة كلها، فأسر الآلهة شيء كبير بالنسبة إلى القبيلة. وقد أشرت إلى استيلاء الاشورين على أصنام قبائل "عريبي" التي حاربتهم، والى أخذها أسيرة إلى أرض آشور، والى مفاوضة الأعراب معهم على الصلح في مقابل إعادة تلك الأصنام اليهم. فلما أعيدت الأصنام إلى أصحابها، كنب الاشوريون عليها كتابة تخبر بوقوعها في الأسر، وبانتصار آلهة اشور عليها، لتكون نذيراً للمؤمنين بها، يحذرهم من حرب ثانية توقع هذه الأصنام في أسر جديد.
وقد أشير إلى "خيل اللات" في مقابل "خيل محمد"، في شعر لأبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، إذ قال:   
لعمرك إني يوم احمل راية  لتغلب خيل الله خيل محمد
ومن أمثلة العرب: "لا تفر حتى تفر القبة"، أو "لا نفر حتى تفر القبة". ويراد بالقبة: قبة الصنم، أي خيمة الصنم النبي تحمل مع المحاربين وتضَرب في ساحة القتال، ليطوف حولها المحاربون،يستمدون منها العون والنصر.كما كانوا يستشيرون الأصنام عند القتال، ويأخذون برأيها فيما تأمر به.
وحمل الأصنام مع القبيلة في ترحالها وفي حروبها وغزواتها يستلزم بذل عناية خاصة بها للمحافظة عليها من الكسر ومن تعرضها لأي سوء كان. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في خيمتها، وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدن. وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه "وقد كانت معابد القبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد،واتخاذ معبد ثابت، لخروج ذلك على سنن الآباء و الأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان الى مكان.
واعتقاد القبائل أن أصنامها هي التي تجلب لها النصر والخسارة، كان سبب يؤدي في بعض الأحيان الى الإعراض عن الصنم. المحبوب ونبذه، نتيجة لانهزام للقبيلة،إذ يتبادر إلى ذهن تلك القبيلة أن تلك الهزيمة التي نزلت بها إنما كانت بسبب ضعف ربها واستكانتهّ وعدم اقتداره في الدفاع عنها، ولذلك تقرر الاستغناء عنه والتوجه إلى رب قوي جديد. وقد يكون ذلك الرب هو ربّ الفبيلة المنتصرة، أو رب قبيلة من القبائل التي عرفت بتفوّقها في الحروب، فيكون التوفيق حليف ذلك الرب. وهكذا الأرباب في نظر قبائل تلك الأيام كالناس لها حظوط، والحظ هو دائماً في جانب القوي.
وكان على كهّان صنم القبيلة المغلوبة ايجاد تفسير لعلة الهزيمة التي لحقت بعبدة ذلك الصنم، والبحث عن عذر يدافعون به عن الصنم، ويلقون اللوم فيه على أتباعه، لتبرئة ذمته وابعاد المؤمنين به عن الشك في قدرته وعظمته. فكان من اعذارهم، أن الهزيمة عقاب من الإلهَ أرسله إلى أتباعه لابتعادهم عن أوامره ونواهيه، ولعدم إطاعتهمء احكام دينه، ولمخالفتهم اراء رجال دينهم وكهانه. ولن تنقشع عنهم النكبة، ويكتب لهم النصر، إلا إذا تابوا وعملوا بأوامر الكهّان وأرضوا الالهة، وعملوا بما أوجبته شريعتهم عليهم. وهكذا يلوم الكهان للناس، دفاعاً عن التهم التي خلقوها باًنفسهم، وحماية لمصالحهم القائمة على استغلال تلك المخترعات، التي نعتوها آلهة وأصناماً.
ولما كانت الالهة آلهة قبائل، كان نبذ الفرد لإلهَه معناه كنبذه لقبيلته وخروجه على إجماعها، فلا يسع شخصاً أن يغير عبادة- إله القبيلة إلا اذا خرج على قبيلته وتعبدّ لإلهَ آخر. فان تغيير عبادة الأفراد لأصنامهم في نظر قدماء الساميين امر إد، هو بمثابة تبديل الجنسية في العصر الحاضر. إن عبادة الأصنام عبادة موروثة يرثها الأبناء عن الاباء، وليست بشيء اختياري، فليس للرجل أن يختار الصنم الذي يريده بمحض مشيئته. إن الصنم دين وهو رمز للقبيلة، والمحامي المدافع عن شعبه، والرابطة التي تربط بين الأفراد، فالخروج عليه معناه خروج على ارادة الشعب، وتفكيك لوحدته، وهو مما لا يسمح به وإلاتعرّض الثائرالى العقاب.
نعم، كان في إمكان أصحاب الكلمة والسيادة والرئاسة تغيير اصنام القبيلة، أبى تبديل دينها، كما سنرى فيما بعد فهؤلاء هم سادة، والناس تبع لسادتهم وفي المثل: "الناس على دين ملوكهم". لقد اضاف سادة أصناماً إلى قبائلهم، فعبدت وتمسك أتباعهم بعبادتها.، وكأنهم قد تلقوا أوامرهم من السماء، ونبذت قبائل بعض أصنامها، بأمر من سادتها. ودخلت قبائل في الإسلام، لدخول سيدها فيه، ودخلت أخرى قبل ذلك في النصرانية، بتنصر سادتها،بكلمة أقنعت الرئيس، أو بعد محاورة، أو بإبلال من مرض قيل له انه كان ببركة ذلك الدين، فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال ولا جواب.
عبادة الأصنام
ويتبين من غربلة روايات الأخباريين ان عبادة الأصنام كانت منتشرة انتشاراً واسعاً قبيل الإسلام،حتى كان أهل كل دارٍ قد اتخذوا صنماً في دارهم يعبدونه. "فإذا أراد الرجل منهم سفرا، تمسح به حين يركب،فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، واذا قدم من سفره تمسح به، فكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله.وقد كان أشق شيء في نظر قريش نبذ تلك الأصنام وتركها وعبادة إله واحد )وعجبوا ان جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلهاً واحداً، ان هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملّة الاخرة إن هذا إلا اختلاق(.
يقول ابن الكلبي: "واشتهرت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً. ومن لم يقدر عليه ولا على بناء البيت، نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت... فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا ً، وجعل ثلاث أثافي لقدره. فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر، فعل مثل ذلك. فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون اليها. وروي أنه لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا وله صنم يعبد يسمونه: "أنثى بني فلان. ومنه قوله تعالى: )إن يدعون من دونه إلاً إناثاً(. والإناث كل شيء ليس فيه روح مثل الخشبة والحجارة". وقد كان المشركون يعبدون الأصنام. "ويسمونها بالإناث الاسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك.
ولم يذكر "ابن الكلبي" العوامل التي دفعت بعبدة الأحجار إلى اختيار أربعة أحجار من بين عدد عديد من الأحجار، ثم اختيار حجر واحد من بين هذه الأحجار الآربعة المختارة. فهل أخذ هذا العدد من نظرية العناصر الأربعة التى وضعها الفيلسوف "امبدوكلس" " Emedokles " "490 - 430 قبل الميلاد". نظرية أن الكون قد تكوّن من عناصر أربعة هي: النار، والماء، والهواء، والتراب، فكانوا يختارون لذلك أربعة أحجار، تمثل هذه القوى الأربع المكونة على رأي الناس في "ذلك الوقت لأساس الكون ثم يختارون حجراً واحداً من بينها يكون أحسنها وأجملها، ليكون رمزاً لها، وممثلاً للاله.
وقد كان من الجاهليين من يختار الأحجار الغريبة فيتعبد لها فإذا رأوا حجراً أحسن وأعجب تركوا الحجارة القديمة وأخذوا الحجارة الجديدة. فال "ابن دريد": "الحارث بن قيس: وهو الذي كان اذا وجد حجراً أحسن من حجر أخذه فعبده. وفيه نزلت: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه". فهذه هي عبادة الأحجار عند الجاهلين.
ولدينا أمثلة عديده تفيد أن كثيراً من الجاهليلين كانوا قى يحتفظون في بيوتهم بأصنام يتقربون إليها كل يوم، ولا يعني ذلك بالطبع ان تلك الأصنام كانت اصناماً كبيرة منحوتة نحتاً فنياً، بل كان أكثرها تماثيل صغيرة وبعضها أحجاراً غير منسقة ولامنحوتة خشباً جيداً وانما هي أحجار تمثل الصنم الذي يتقرب اليه ألمرء. روي ان "أحمر بن سواء بن عدي السَّدُوسي" كان له صنم يعبده، فعمد اليه فألقاه في بئر، ثم جاء إلى الرسول فأسلمْ.
وكان بين الجاهليين قوم كرهوا الأصنام وتأففوا منها، رأوا انها لا تنفع ولا تضر ولا تشفع، فلم يتقربوا،اليها، وقالوا بالتوحيد، ومن هؤلاء "مالك بن التيهان"، وهو من الأنصار ومن المسلمين الأولين الذين دخلوا في الإسلام من أهل "يثرب"، و "أسعد بن زرارة".
وقد شك بعض المستشرقين في وجود أصنام عند العرب الجنوبيين، ويظهر أن - الذي حملهم على قول هذا القول، هو ما رأوه من تعبد العرب الجنوبيين لإلهة منظورة في السماء هي الكواكب الثلاثة المعروفة، فذهبوا الى انتفاء الحاجة لذلك إلى عبادة أصنام ترمز ا الى تلك الآلهة.وعندي أن،في اصدار رأي في هذا الموضوع نوع من التسرع، لأننا لم نقم حتى اليوم بحفريات علمية عميقة في مواضع الآثار في العربية الجنوبية حتى نحكم حكماً مثل هذا لا يمكن إصداره الا بعد دراسات علمية عميقة لمواضع الاثار.، فلربما تكشف دراسات المستقبل عن حلَ مثل هذه المشكلإت، إن الإسلام قد هدّ م الأصنام وأمر بتحطيمها، فذهبت معالمها، إلا أنه. من الممكن احتمال العثور على عدد منها، لا زال راقداً تحت التربة، لأنه من الأصنام القديمة التي دفنت في التربة قبل الإسلام بسبب دمار حلّ بالموضع الذي عبد فيه،أو من الأصنام التي وصلت اليها أيدي الهدم، فطمرت في الأتربة، وعلى كلّ فالحكم في هذا الرأي هو كما ذكرت للمستقيل وحده، وعليه الاعتماد. والرأي الذائع ببن الأخباربين عن كيفية نشوء عبادة الاصنام قريب منت رأي بعض العلماء المحدثين في هذا الموضوع. عندهم أن الناس لم يتعبدوا في القديم وفي بادىء بدء الاصنام، ولم يكولَوا ينظرون اليها على أنها أصنام تعبد " إنما صوروها أو نحتوها لتكون صورة أو رمزاً تذكرهم أو يذكرهم بالإلهَ أو الآلهة الأشخاص الصالحين. فلما مضى عهد طويل عليها، نسي الناس أصلها، ولم يعرفوا أمرها فاتخذوها أصناماً وعبدوها من دون الله. وتحملنا رواياتهم في بعض الأحيان على الاعتقاد أنه ربما كانوا يعتقدون بعقيدة المسخ، كالذي رووه عن الصنمين إساف ونائلة من أنهما "رجل وامرأة من جرهم، وأن إسافاً وقععليها في الكعبة فمسخا، وبعقيدة التقمص كالذي رووه عن الصنم اللات من أنه كان -إنسانأ من ثقيف،فلما مات قال لهم عمرو بن لحيّ: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة. ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنياناً يسمى اللات". لو كالذي رووه عن إلأصنام ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، من أن هؤلاء كانوا نفراً من بني آدم صالحين، "وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلم ماتوا قال أصحابهم للذين كانوا يقتدرن بهم لو صوّ رناهم كان لشوق لنا إلى للعبادة اذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا ودب اليهم ابليس، فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدو هم".
وهذه العقيدة هي التي خلقت للاخبارين جملة قصص عن وجود ارواح كامنة في تلك الأصنام، كانت تتحدث إلى الناس، وهي التي أوحت اليهم بذلك القصص للذي رووه بمناسبة أمر النبي بهدم الأصنام، من خروج جن من أجوافها حينما قام بهدمها المسلمون. وقد كان أولئك الجنة على وصفهم إناثاً، وللغالب انهن على هيأة زنجيات شمطاوات عجائر، وقد نثرن شعورهن، وهي صور مرعبة ولا شك في نظر الناس، ومن عادة الناس منذ القديم أن يمثلوا الجنة على هيأة نساء طاعنات في السن مرعبات.
والخوف من هذه الأرواح أو الجنة التي كانت تقيم في أجواف الأصنام على راي الجاهليين، حمل بعض من عهد اليهم تحطيم تلك الأصنام على التهيب من الإقدام على مثل ذلك العمل خشية ظهورها وفتكها بمن تجاسر عليها. وهذا الخوف هو الذي "اوحى اليهم ولا شك برواية القصص المذكور".
ويمثل الصنم قوة عليا هي فوق الطبيعة، وقد يظن انها كامنة فيه، وتكون الأصنام على أشكال مختلفة، قد تكون على هيأة بشر، وقد تكون على هيأة حيوان أو أحجار أو أشكال أخرى، ولهذه الأصنام عند عابديها مدلولات وأساطير. وهي تصنع من مواد مختلفة، من الحجارة ومن الخشب ومن المعادن ومن أشياء أخرى بحسب درجة تفكير عبدتها وتأثرهم بالظواهر الطبيعيهّ والمؤثرات اليَ تحيط بهم. وقد تستخدم خُشُبُ خاصة تؤخذ من اشجار ينظر اليها. نظرة تقديس واحترام في عمل الأصنام منها. ويتوقف صنعها على المهارة التي يبديها الفنان في الصنع. ويحاول الفنان في العادة ان يعطيها شكلاً مؤثراً له علاقة بالأساطير القديمة وبالكائن الذي سيمثله الصنم. وقد يكون الصنم من حجارة طبيعية عبدها عن أجداده كأن يكون من حجارة البراكين، وقد يكون من النيازك عبدها لظنه بوجود قوة خارقة فيها.
ولعبادة الأصنام صلة وثيقة بتقديس الصور Images. وكذلك بصور السحر Magical Images. فكل هذه الأشكال الثلاثة هي في الواقع عبادة. ونعني هنا بتقديس الصور، الصور المقدسة التي تمثل أسطورة دينية أو رجالاً مقدسين كان لهم شأن في تطور العبادة، أو جاءوا بديانة، وأمثال ذلك، فأحب المؤمنون بهم حفظ ذكراهم وعدم نسيانهم أو الابتعاد عنهم، وذلك بحفظ شيء يشير اليهم ويذكرهم بهم، وهذا الشىء قد يكون صورة مرسومة، وقد يكون صورة محفورة أو منحوتة أو مصنوعة على هياًة تمثال أو رمز يشير إلى ذلك المقدس. فالصور المرسومة إذن، هي نوع من العبادة أيضاً، ينظر الها نظرة تقديس و إجلال.
وتجد في روايات أهل الأخبار عن منشأ عبادة الأصنام عند العرب ما يؤيد هذا الرأي، فهناك رواية طريفة عن الصنم "سواع" تزعم أن سواعاً كان ابناً لشيث، وأن يغوث كان ابناً لسواع، وكذلك كان يعوق ونسر، كلما هلك الأول صورت صورته وعظمت لموضعه من الدين. ولما عهدوا في دعائه من الإجابة. فلم يزالوا هكذا حتى خلف الخلوف، وقالوا: ما عظّم هؤلاء آباءنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة. وهناك رواية أخرى تزعم أن الأوثان التي كانت في قوم نوح، كانت في الأصل أشخاصاً صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن ان أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها انصاباً، وسموها بأسمائها، ففعلوا، فلم تعبد، حتى اذا هلك اولئلك وتنوسخ العلم بها عبدت.
وهنالك روايات عن أصنام جعلتها أشخاصاً مسخوا حجراً، فعبدوا أصناماً، وصاروا شركاء للّه، تعبد لها، لأنها في نظرهم تنفع وتضر.
ونجد في أخبار فتح مكة ان الرسول حينما دخل الكعبة رأى فيها صور الأنبياء والملائكة، فأمر بها فمحيت. ورأى فيها ستين وثلاث مئة صنم مرصعة بالرصاص، وهبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون، فأمر بها فكسرت.
أما هذه الصور، فقيل انها صور الرسل والأنبياء، و بينها صورة "ابراهيم" وفي يده الأزلام يستقسم بها.
الأصنام
والصنم في تعريف علماء اللغة هو ما اتخذ إلهاً من دون الله،وما كان له صورة كالتمثال "مثال"، وعمل من خشب، أو ذهب، أو فضة، أو نحاس، أو حديد، أو غيرها من جواهر الأرض. وقال بعضهم: الصنم جثة متخذة من فضة، أو،.نحاس، أو ذهب، أو خشب، أو حجارة، متقربين به إلى الله، فالشرط فيه أن يكون جثة: جثة انسان أو حيوان. وقيل: الصنم الصورة بلا جثة. وذكر ان الصنم ما كان من حجر أو غيره. وعرف بعضهم الصنم بأنه ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن. و "الصنمة."، الصورة التي تعبد. وقد كان "المنطبق" صنماً من نحاس أجوف يكلمون من جوفه.
ووردت لفظة "صنم" في كتابات عثر عليها في أعالي الحجاز، اسم علم لإله ازدهرت عبادته بصورة خاصة بمدينة "تيماء"، ويرجع بعض المستشرقين تأريخ ازدهار عبادة هذا الصنم إلى حوالي سنة"600" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه علماً لأشخاص في الكتابات اللحيانية. ورمز عنه برأس ثورَ في كتابات قوم ثمود.
وقد وردت كلمة "أصنام" و "أصناماً" و "الأصنام" و "أصنامكم" في القرآن الكريم، بحسب مواقع الكلمهّ في الجملة.
وذكر علماء اللغة أن كلمة "صنم" ليست عربية أصيلة، وإنما هي معربة وأصلها "شمن" "شنم"، ولكنهم لم يذكروا اسم اللغة التي عربت منها. وترد اللفظة في اللهجات العربية الجنوبية، وردت "صلمن" في نصوص المسند بمعنى"صنم" و "تمثال"، و "مثال". ووردت في لهجات عربية أخرى. وهي "صلمو" Salmo في لغة بني ارم، ومعناها "صورة". من أصل "صلم" بمعنى "صوّر"، وتقابل "صلم" في العبرانية.
وقد ورد في قصص أهل الأخبار أن "بني حنيفة" تعبدوا لصنم من حيس، فعبدوه دهراً طويلا،.ثم جاعوا فأكلوه، فقال الشعراء في ذلك شعراً يعيرون به " بني حنيفة" لأكلهم ربهم زمن المجاعة. وهو في رأيي من القصص، الذي يضعه الخصوم في خصومهم للاستهزاء بهم.
الوثن
وأما كلمة "وثن"، فهي من الكلمات العربية القديمة الواردة في نصوص المسند. ويظهر من استعمال هذه الكلمة في النصوص مثل: "وليذبحن وثنن درا بخرفم ذبصم صححم انثيم وذكرم"، أي "وليذبح للوثن مرة فىٍ السنة ذبحا صحيحاً، أنثى أو ذكراً ". ان الوثن هو الذي يرمز إلى الإلَه، أي بمعنى الصنم في القرآن الكريم.
الصلم
ويظهر من استعمال كلمتي "صلمن" "الصلم" "صلم" و "وثنن " "الوثن" ان هناك فرقاً بين الكلمتين في نصوص المسند، فإن كلمة "صلمن، تعني في الغالب تمثالاً يصنع من فضه، أو من ذهب، أو من نحاس، أو من حَجر، أو من خشب، أو من أية مادة أخرى ويقدم إلى الآلهة لتوضع في معابدها تقًربا اليها، لاجابتها دعاء الداعين بشفائهم من مرض أو قضاء حاجة، أي انها تقدم نذوراً. أما الوثن، فإنه الصنم في لهجتنا، اي الرمز الذي يرمز به إلى الإله، والذي يتقرب له الناس.
والوثن في رأي بعض العلماء، لفظة مرادفة لصنم. وقال بعض آخر: "المعمول من الخشب أو الذهب والفضة أو غيرها من جواهر الأرض صنم، وإذا كان من حجارة، فهو وثن ". وذكر بعض آخر ان الصنم ما كان له صورة جعلت تمثالأ، والوثن ما لا صورةٍ له. "وقيل ان الوثن ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة ينحت ويعبد، والصنم صورة بلا جثة. وقيل: الصنم ما كان على صورة خلقة البشر، والوثن ما كان على غيرها". "وقال آخرون: ما كان له جسم أو صورة، فصنم، فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن. وقيل: الصنم من حجارة أو غيرها، والوثن ما كان صورة مجسمة. وقد يطلق الوثن على الصليب وعلى كل ما يشغل عن الله". وقال بعض آخر: " يقال لكل صنم من حجر أو غيره صنم، ولا يقال وثن إلا لما كان من غير صخرة كالنحاس ونحوه ". وذكر بعض آخر: " أصل الأوثان عند العرب، كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس أو نحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها ".
وذكر علماء اللغة أن "الودع" وثن. ولم يذكروا شيئاً عنه غير ذلك. وقد أطلق "الأعشى" على الصليب "الوثن"، إذ قال: تطوف العفـاة بـأبـوابـه  كطوف النصارى ببيت الوثن 
"أراد بالوثن الصليب". "قال عديّ بن حاتم: قدمت على النبي، صلى اللّه عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: القِ هذا الوثن عنك، أراد به الصليب، كما سمّاه الأعشى وثنا".
فنحن اذن أمام آراء متباينة في معنى "الصنم"، و "الوثن". منهم من جعل الصنم مرادفاً للوثن، أي في معنى واحد، ومنهم من فرّق بينهما، ومنهم من جعل الصنم وثناً والوثن صنماً. والظاهر ان مردّ هذا الاختلاف، هو اختلاف استعمال القبائل للكلمتين، فلما جمع علماء اللغة معانيهما، وقع لهم هذا التباين وحدث عندهم هذا الاختلاف في الرأي.
وترد في كتب الأدب واللغة لفظة "البعيم ". اسم صنم، والتمثال من الخشب، وقيل الدمية من الصمغ. والمثال الشبه، وما جعل مثالاً لغيره، والتمثال. وهو الشيء المصنوع مشبهاً بخلق واذا قدرته على قدره. وذكر انها الأصنام. وفي هذا المعنى وردت في القرآن الكريم: "ما هذه التماثيل ? أي الأصنام. وقوله تعالى:) من محاريب وتماثيل، هي صور للأنبياء(. وذكر: التماثيل للاصنام، والصورة، والشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق اللّه. أي انسان أو حيوان أو نبات. ويعبر عن التمثال والمثال.بلفظة "امثلن" في العربيات الجنوبية. وردت في النصوص لمناسبة تقديم أصحابها تماثيل إلى الالهة لتوضع في معابدها وفاء لنذور نذروها لها.
و "الدمية" الصورة المنقشة من الرخام، أو عام من كل شيء، أو الصورة عامة. والصنم، والأصنام دمى. ومن أيمان الجاهلية: لا والدمى،-يريدون الأصنام، وذكر ان "الدمية" ما كان من الصمغ.
و " البد ّ" الصنم الذي يعبد، فارسي معرب. عرب من " بت " بمعنى"صنم". وذكر ان "البد"، بيت الصنم والتصاوير أيضاً.
وقد اشتغل بعض أهالي مكة بصنع الأصنام. فكان "عكرمة بن أبي جهل" ممن يعملها بمكة. وكان الأعراب اذا جاءوا مكة أو المواضع الحضرية الأخرى اشتروا الأصنام منها للتعبد لها.
هيأة الأصنام
وقد وصف "ابن الكلبي"، وهو الراوية الرئيس والعالم الكبير بالأصنام هيأة بعض الأصنام، فذكر مثلاٌ أن الصنم "هبل"، كان،على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب. فهو تمثال إنسان اذن نحت من حجر أحمر أو وردي، لا يستبعد أن يكون من عمل بلاد الشام أو من عمل الفنانين اليونان، واستورد من هناك، فنصب في جوف الكعبة. استورده أحد سادة "مكة" وهو "عمرو بن لحيّ" على رواية أهل الأخبار، أو غيره، لما رأى فيه من حسن الصنعة ودقة النحت. فوضعه في موضعه. ولم يذكر أهل الأخبار سبب كسر اليد اليمنى للصنم، هل كان ذلك بسبب حادث، أو بسبب أسطوري. وأما "اللات" فصخرة بيضاء منقوشة، في رواية أكثر الأخبار. وتمثال من حجر على رواية. وأما العزى، فهناك رواية تذكر أنها كانت صنماً، أي تمثالاً، ولكنها لم تعين صورته على نحو ما تحدثت عنها في الفصل الخاص بالأصنام. واما "ود" فقد كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوساً، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة فيها نبل. وأما "سواع"، فكان صنماً على صورة امرأة. ولا يستبعد أن يكون من بين الأصنام الباقية ما كان على صورة حيوان. فقد كان الصنم "نسر" يمثل النسر.
وأقصد بالأصنام في هذا المكان أصنام المعابد، أي الأصنام التي كان الناس يتقربون أليها بالتعبد والنذور. وأما الأصنام الصغيرة، وهي التماثيل التي كان يتعبد لها الناس في بيوتهم أو يحملونها معهم في أسفارهم أو يحملونها معهم حيث ذهبوا تبركاً بها. فقد كانت كثيرة، لا يخلو منها انسان، وكانوا يتقربون بها إلى الأصنام الكبيرة. وقد عثر المنقبون على عدد كبير منها، وهي متًفاوتة في الحجم وفي الروعة ودقة الصنع والاتقان.
عبادة للأصنام
ونظرية "ابن الكلبي" ومن لف لفه من الأخباريين ان نسل اسماعيل بن ابراهيم لما تكاثر بمكة حتى ضاقت بهم، وقعت يينهم الحروب والعداوات، فاًخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد التماساً للمعاش. وكان كلما ظعن من مكة ظاعن حمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابة بمكة. فحيثما حلّوا، وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها وصبابة بالحرم وحُباً له. وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث ابراهيم واسماعيل.
"ثم سلخ بهم إلى ان عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبسدلوا ابراهيم واسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوح منها، على أرث ما بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد ابراهيم واسماعبل يتنسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عَرَ فَة ومزدلفة، واهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع أدخالهم فيه ما ليس منه".
فكان أول من غير دين اسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة ابن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة.
وكانت أم عمرو بن لحيّ، فهيرة بنت عامر عمرو بن الحارث بن عمرو الجرهمي، ويقال: قمعة بنت مضاض الجرهمي.
وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة. فلما بلغ عمرو بن لحيّ، نازعه في الولاية، وقاتل جرهماً ببني اسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة،ونفاهم عن بلاد مكة، وتولى حجابة البيت بعدهم.
ثم إنه مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمّة إن أتيتها، برأت. فأتاها، فاستحم بها، فبرأ. ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه ? فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا. فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. ثم أخذ عمرو ابن لحيّ في توزبع الأصنام على القبائل. وبذلك شاعت عبادة الأصنام بين الناس.
هذه رواية شهيرة معروفة بين الأخباربين عن منشأ عبادة الأصنام وانتشارها عند العرب. وفي رواية أخرى: "كان أول من اتخذ تلك الأصنام، من ولد اسماعيل وغيرهم من الناس، وسموّها بأسمائها على ما بقي فيهم من ذكرها حين فارقوا دين اسماعيل هُذيل بن مدركة". فنسبت هذه الرواية اتخاذ الأصنام إلى هذيل.
وهناك روايات أخرى في هذا المعنى تتفق مع الرواية الأولى من حيث الجوهر ولا تختلف معها إلا في بعض التفاصيل ؛ ففي رواية ان" عمرو بن لحيّ "حينما قدم "مآباً" من أعمال البلقاء، وهي يومئذ بأيدي العماليق، ووجدهم يتعبدون للأصنام، سألهم أن يعطوه صنماً منها ليسير به إلى أرض العرب ليعبدوه، فأعطوه الصنم هبل، فأخذه، وقدم به إلى مكة فنصبه. وأمر الناس بعبادته. فعينت هذه الرواية القوم الذين ذهب اليهم "عمرو بن لحيّ "، والموضع الذيَ نزل به، وثبتت اسم الصنم الذي اخذه منهم. وهي زيادات لم نجدها في كتاب الأصنام.غير ان تشابه عبارات هذه الرواية التي ذكرها "ابن هشام" مع رواية " ابن الكلبي"، يدل على ان المنبع واحد، وانما الخلاف هو في ذكر بعض الفروع، وفي اختصار بعض المواضع، والإطناب في مواضع أخرى.
وفي رواية أخرى عن "ابن الكلبي" كذلك، وهي في كتابه الأصنام، ترجع أيضاً عبادة الأصنام إلى عمرو بن لحيّ، غير انها تروي الخبر في صيغة أخرى، فتقول: "وكان عمرو بن لحيّ، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد، وهو أبو خزاعة، وأمه فهيرة بنت الحارث، ويقال إنها كانت بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وكان كاهناً. وكان قد غلب على مكة وأخرج منها جرهماً، وتولى سدانتها.
وكان له رئي من الجن، وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من يمامة، بالسعد والسلامة ! قال: جير، ولا إقامة.
قال: ايت ضَفَّ جُدّة، تجد فيها أصناماً معدة، فاًوردها تهامة ولا تهاب، ثم ادع عبادتها قاطبة. فأتى شطً دجلة، فاستشارها، ثم حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحجّ، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة.
فأجابه عوف بن عُذرة بن زيد اللآت بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة ابن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فدفع اليه ودّاً. فحمله إلى وادي القرُى، فأقره بدومة الجندل. وسمىّ ابنه عبد ودً. فهو اول من ُسميّ به، وهو أول من سميّ عبد ودّ، ثم سمعة العرب به بعد.
فهذه الرواية هي علىشاكلة الرواية الأولى في منشأ عبادة الأصنام بين العرب قبل الإسلام بحسب رأي الأخباريين بالطبع، سوى اختلافها عنها في المكان الذي اخذت الأصنام منه. فهنا "جُدَّة" على ساحل البحر الأحمر، وهناك البلقاء من أعمال الشام. والموضعان، وإن كانا يختلفان موقعاً، يتفقان في شيء واحد هو وقوعهما على حدّ مقصود، يرده الأجآنب منذ القدم للاتجار. فهل يعني هذا استيراد تلك الأصنام من الخارج، من بلاد الشام أو من مصر، وانها كانت من عمل اهل الشام أو اهل مصر أو من عمل الروم أو الرومان ? وتذكر رواية أخرى ان "عمرو بن لحيّ"، إنما جاء بالصنم "هبل"، من "هيت" بالعراق حتى وضعه في الكعبة.
وعمرو بن لحيّ هو على اختلاف الروايات أول من غير دين اسماعيل،فنصب الأوثان، وسيب الساثبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي. فقأ عين عشرين بعيراً، فصارت العادة أن يفقأ عين الفحل من الإبل إذا بلغت الإبل ألفاً. فإذا بلغت ألفين، فقئت العين الأخرى. وقد نسب اليه كلام طويل. وزُعم له عمر مديد، وقصص أخرجه من عالم الواقع إلى عالم القصص والأساطير، ورجع عصره إلى ايام" العماليق" والى ايام "سابور ذي الأكتاف". وذكر ان العرب جعلته "رباً لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة"، وذكروا انه كان ملكاً على الحجاز، "وكان كبير الذكر في ايامه، الى غير ذلك من قصص يروونه عنه.
وذكر "المسعودي"، ان "عمرو بن لحيّ" حين خرج إلى الشام ورأى قوماً يعبدون الأصنام، فأعطوه منها صنماً فنصبه على الكعبة،وأكثر من الأصنام، وغلب على العرب عبادتها،انمحت الحنيفية منهم إلا لماماً، ضج العقلاء في ذلك، فقال "شحنة بن خلف" "سحنة بن خلف الجرهمي" : يا عمرو إنك قد أحدثت آلـهة  شتى بمكة حول البيت أنصابا
وكان للبيت ربّ واحـد أبـداً  فقد جعلت له في الناس أربابا 
لتعرفن بأن الله فـي مـهًـلٍ  سيصطفي دونكم للبيت حجابا
وكان "عمرو بن لحي" كاهناً على ما يذكره أهل الأخبار : وهو من "خزاعة"، التي انخزعت من اليمن. ثبت حكمه على مكة، بعد أن انتزع الحكم من جرهم، وغلب قومه عليها، فصاروا يطبعونه ويتبعون ما يضعه لهم. وقد نسبوا اليه وضع بقية الأصنام، مثل اللات واساف ونائلة، فهو على رأي أهل الأخبار مؤسس هذه الأصنام التي بقيت إلى أيام النبي، والتي حطمت بأمره عام الفتح، وباستيلاء المسلمين على المواضع الأخرى.
وذكر أهل الأخبار أن "عمرو بن لحي" كان أول من غيرَّ تلبية "ابرهيم". وكانت: "لبيك لا شريك لك لبيك"، فجعلها: "لبيك اللهم لبيك، إلا شريك هو لك، تملكه وما لك"، وقد كان "ابليس" قد ظهر له في صورة شيخ نبيّ على بعير أصهب، فسايره ساعة، ثم لبى ابليس، فلبى "عمرو" تلبيته حتى خدعه. فلباها الناس على ذلكْ.
وقد قيل إنه بلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية مبلغه. ويظهرر أنه كان من أصحإب الحول والسلطان والجاه،ولذلك ترك هذاّ الأئر في روايات أهل الأخبار. واني أرى أنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وإلا لمَ حفظت ذاكرة أهل الأخبار أخبارها عنه. والظاهر أنه كان كاهناً من الكهان، ورجلا كبيراً من رجال الدين.
وروي أن الرسول ذكر أن "عمر بن لحي ين قمعة" كان أول من غيرّ دين اسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة.
ولست أظن أن الرواة قد أقحموا اسم "عمرو بن لحي " في قصة انتشار الأصنام في جزيرة العرب اقحاماً من غير أصل ولا أساس، فلا بد من أن تكون للرجل صلة ما بعبادة الأصنام عند الجاهليين، ولا بد أن يكون من الرجال الذين عاشوا في عهد غير بعيد عن الإسلام، لا قبل ذلك بكثير كما يدعي الأخباريون، فما كان خبره ليصل اليهم على هذا النحو لو كان زمانه بعيدأَ عنهم البعد الذي تصوروه. وأنا لا أستبعد احتمال شراء "عمرو بن لحيّ" للاصنام من بلاد الشام ومجيئه بها إلى الحجاز، ونصبه لها في الكعبة وفي مواضع أخرى، لما وجده من حسن صنعة التماثيل في تلك البلاد ومن جودة حجارتها، فاشترى عدداً منها، لتنصب في المحجات، فنسبت عبادة الأصنام اليه.
وزعموا أن "ابن أبي كبشة": "جزء بن غالب بن عامر بن الحارث ابن غبشان الخزاعي"، كان ممن أدخل الشرك إلى العرب، وخالف دين التوحيد. لقد ذكروا أنه دعا إلى عبادة "الشعرى العبور".
وليست عبادة الأصنام والأوثان عبادة خاصة بالعرب، بل هي عبادة كانت معروفة عند غيرهم من الشعوب السامية، وعند غير الساميين، كما أنها لا تزال موجودة قائمة حتى الآن.
وكانت قريش تتعبد وتتقرب إلى أصنام قبائل أخرى، على شرط المثل، أيَ أن تتقرب تلك القبائل وتتعبد لأصنام قريش. فقد ذكر "السكرى" أن قريشا كانت تعبد صاحب كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش. وقد تمكنت قريش بفضل هذه السياسة الحكيمة من جمع أصنام للعرب وضمها في الكعبة، وهذا ما جعل القبائل تعظم هذا المجمع، وتحج اليه كل سنة مرة، في موسم الحح، بالإضافة إلى الأيام الأخرى من أيام السنة، حيث تقع فيها للعمرة. فربحت من ذلك ربحاً معنوياً ومادياً، وصارت مكة سوقاً مستقرة، ثابتة، يقصدها الناس في كل وقت.
الحلف بالاصنام والطواغيتَ
ولعقيدتهم المذكورة في الأصنام، كانوا يحلفون بها وبالطواغيت. والظَاهر أن هذه العادة بقيت في نفوسهم حتى في الإسلام. فقد ورد في الحديث: " أنه قال من حلف بغير الله، فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"، و "من حلف، فقال في حلفه واللات والعزى. فليقل : لا إلَه إلاّ الله"، ومن قال لصاحبه: تعال -أقامرك فليتصدق". وكانت ألسنتهم تسبقهم، لما اعتادته. من زمن الجاهلية من الحلف بالصنام.