الأحد، 29 أبريل 2018

انتفاضة مزارعي التبغ كانون1 1972، نيسان 1973؛ فؤاد المقدّم.

 



 
اعتصام مزارعين التبغ في مبني الريجي بمشاركة السيد على مهدى ابراهيم - مطلع كانون الثاني ١٩٧٣




 
 تظاهرة في النبطية في ذكري اسبوع شهداء المزارعين في ٢ شباط ١٩٧٣ ضمت التظاهرة حوالي عشرة آلآف متظاهر تقدمها كمال جنبلاط ومعروف سعد
 



انتفاضة مزارعي التبغ كانون الاول ١٩٧٢ - ١٥ نيسان 1973
فؤاد المقدّم


ما اكثر ما كتب خلال عقود عن انتفاضة مزارعي االتبغ، وهي كتابات يغلب على معظمها إما تناول وقائعها بشكل مجتزأ لا سياق له ، وإما تضخيماً لدور -أحزاب وأفراد - وآخر هذه الكتابات ما تم إصداره خلال السنتين الأخيرتين وصولا إلى الفيلم الوثائقي للمخرجة ماري جرمانوس الذي جرى عرضه منذ اسبوعين.


كنت آليت سابقا على نفسي عدم التطرق إلى وقائع ومجريات هذه الانتفاضة التزاما مني بعدم الحديث عنها وعن الدور الذي لعبته فيها وخلالها، واليوم وبعد أن لحق هذه الحركة هذا القدر من التشويه رأيت أن هناك ضرورة لعرض وقائع ومجريات هذه الانتفاضة.

وهنا لا بد، من أن أشير إلى أنني أكتب عن هذه الانتفاضة من موقع المشارك فيها إعداداً لها ، ومشاركة مباشرة في سائر مراحلها ساعة بساعة، على امتداد اربعة شهور - قضيت من هذه الاشهر مدة اربعين يوما لم أذهب خلالها إلى منزلي إلا لساعات ، ثم تلتها فترة ٢٧ يوما منها حوالي اليومين في دائرة الامن العام في صيدا ويومين اخرين في نظارة المحكمة العسكرية في بيروت ، تلتها فترة ٢٣ يوما في سجن الرمل في بيروت.

منذ سنتين اتصلت بي المخرجة ماري جرمانوس طالبة مساعدتها لإخراج فيلم وثائقي عن إضراب عمال غندور وانتفاضة مزارعي التبغ، وكانت قد أنجزت تصوير بعض مراحل انتفاضة المزارعين.

عقدنا عدة لقاءات متتابعة عرضت خلالها وقائع انتفاضة المزارعين منذ الإعداد لها وحتى نهايتها، ثم وضعتني المخرجة في تفاصيل ما أنجزته حتى الآن، وطلبت مني المشاركة في تصوير بعض الوقائع .
هنا كان لي العديد من الملاحظات على ما أنجزته لجهة النواقص الكثيرة، فضلا، وهذا هو الاهم عن ان ما انجز ليس سوى مشاهد متفرقة من الانتفاضة لا يجمعها جامع ولا تندرج في ابراز السياق الفعلي لمجرياتها
او الدروس المسثفادة منها، وطلبت منهاالحفاظ على الحد الادنى من ابراز هذا السياق. اخبرتني انها لا تستطيع تعديل ما انجز لصعوبة ذلك، ابلغتها بعد ذلك انني لست مغرما بان اشارك في تصوير بعض المشاهد في فيلم توثيقي لا يعكس الحد الادنى من مجريات الانتفاضة والسياق الذي تمت فيه.
بعد الانتهاء من انجاز الفيلم وعرضه تاكد لي صحة الملاحظات التي كنت قدمتها كون الفيلم هو اقرب الى مشاهد من هنا وهنك وهنالك من دون ان يجمعها جامع او سياق محدد، وتاكد لي ان المخرجة التي لها الفضل في اخراج هذا الفيلم الوثائقي والجهد الذي بذلته واصرارها على انجازه طوال ثلاث سنوات ، لكن يبدو حسب اعتقادي ان كثرة وسعة اللقاءات والاتصالات التي اجرتها المخرجة وتعدد المقاربات التي سمعتها ادى الى تضييع المقاربة التي تعكس مجريات الانتفاضة.


بالعودة الى وقائع الانتفاضة ومجرياتها وسياقها اشير الى ابرز وقائعها:

جرت العادة قبل مطلع كل سنة وهو الموعد المتعارف عيه لاستلام المحصول من قبل شركة الريجي ان تشهد اوساط المزارعين الكثير من اللقاءات والمداولات لبحث اشكال التحرك دعما لمطالبهم وهو ما حصل
اواخر العام ١٩٧٢.
في هذه الاثناء عقدنا عدة لقاءات ضمت محمود ابو زيد (الحزب الشيوعي اللبناني والشهيد موسى شعيب (حزب البعث العراقي) وفؤاد المقدم (منظمة العمل الشيوعي) والسيد هاني فحص، وتم التداول في ما يمكن فعله، وتم الاتفاق خلالها على القيام باوسع حملة في صفوف المزارعين وعدد من رجال الدين  للتشاور حول الخطوات التي يمكن القيام بها لطرح مطالب مزارعي التبغ.
وفعلا وبعد القيا م بحملة واسعة في صفوف المزارعين تم الاتفاق معهم على البدء باعتصام في مبنى الريجي في الجهة الشمالية لمدينة النبطية.
وفي النصف الاول من كانون الثاني بدا اعتصام المزارعين في مبنى الريجي بمشاركة عدد واسع من المعتصمين الذين اتفقوا على الاعداد لتظاهرة حاشدة، وهو ما حصل.
وبعد اوسع حملة اتصالات في صغوف المزارعين وفي  ٢٢ كانون الثاني تجمع في الساحة المقابلة للنادي الحسيني - ساحة الامام الحسين - ما يقرب من خمسة الاف من المزارعين انطلقوا في تظاهرة نحو مبنى شركة الريجي، حينها كنت قد كلفت بتحضير سيارة عليها ميكروفون - استعرنا سيارة فيات خاصة المزارع حبيب ياغي وعليها ميكروفون - للسير في منتصف التظاهرة والتذكير بمطالب المزارعين اضافة الى عرض ابرز تحركات مزارعي التبغ على امتدادعقود، وقد كنت في السيارة مع الشهيدد حسن بدر الدين- منظمة عمل شيوعي-

عند وصول التظاهرة الى مدخل مبنى شركة الريجي بدا عناصر قوى الامن باطلاق النار في اتجاه المتظاهرين مباشرة مما ادى الى استشهاد مزارعيّ التبغ -- حسن حايك ونعمة درويش العضو في الحزب الشيوعي - اضافة الى ١٧جريحا في صفوف المتظاهرين.

اثر ذلك تفرق المتظاهرون في كل الاتجاهات، عندها وجهنا نداءً عبر ميكروفون السيارة يدعو المزارعين الى التجمع في النادي الحسيني. تجمع الاف المزارعين في النادي الحسيني وبدأوا اعتصاما استمر لعدة أشهر، وقد تداول المعتصمون في الخطوات المقبلة لاستمرارتحركهم وبرزت عدة اراء أولها تشكيل لجنة دائمة لمتابعه تحركات المزارعين من الاحزاب والفاعليات ورجال الدين والمزارعين المعتصمين تكون بمثابة لجنة دائمة، وثانيها وهو ما طرحناه ولقي استجابة من عدد واسع من المعتصمين، اقترحنا الاعداد لعقد مؤتمر لمزلرعي التبغ والعمل على قيام لقاءات في كل القرى التي تزرع التبغ لحضور المؤتمر وانتخاب لجنة تاسيسية لنقابة مزارعي التبغ بديلا من اللجان التي دأب اقطاب الاقطاع السياسي على تشكيلها، والتي تتشكل من كبار المزارعين من ازلامهم وحواشيهم.


بنتيجة التدا ول بين المعتصمين تم الاتفاق على: - القيام باوسع حملة اتصالات في صيدا واالجنوب وبيروت تشمل الاحزاب الوطنية والهيئات النقاببة والعمالية والطلابية والتربوية والشعبية.

- الإعداد لعقد مؤتمر لمزارعي التبغ من اعضاء منتخببن من قبل المزارعين والمباشرة فورا في لقاءات لمزارعي التبغ في جميع قرى الجنوب.
--تثبيت مطالب التحرك بزيادة اسعار محصول التبغ ه٢ بالماية.
- الغاء الغرفة الحديدية عند تسليم المحصول.
- زيادة -عدد رخص التبغ وتحديد الحد الادنى للرخصة الواحدة بخمسة دونمات والحد الاعلى.
- تشكيل لجتة مؤقتة لمتابعة التحرك القائم وقد تم الاتفاق على تسمية كل من: السيد هاني فحص، وفؤاد المقدم، والشهيد موسى شعيب، وعلي عليق وحببب ياغي كاعضاء في لجنة متابعة التحرك.

بعد يومين تم اعتقال كل من فؤاد المقدم وموسى شعيب وظافر المقدم وحسن بدر الدين وتحويلهم إلى المحكمة العسكرية (كانت كل القضايا تحول الى المحكمة العسكرية تحت عنوان أن منطقة الجنوب مصنفة كمنطقة عسكرية) وتم اتهامهم بقتل المزارعين وتحويلهم الى سجن الرمل في بيروت واحالتهم الى المحاكمة تحت المادتين ٥٤٩ و٧٢، بعدها تطوع خمسين محاميا للدفاع عنهم.
بعد ايام دعت الاحزاب والقوى الوطنية والتقدمية لتظاهرة في بيروت شارك فيها عشرون ألف متظاهر وعلى رأسها كمال جنبلاط متوكئا على عصاه.

.في ٢ شباط ذكرى مرور اسبوع على استشهاد مزارعي التبغ سارت تظاهرة حاشدة في النبطية، من عشرة الاف متظاهر على راسها كمال جنبلاط ومعروف سعد والسيد علي مهدي ابراهيم.
منذ اليوم الاول لاستشهاد المزارعين تحول مركز الاعتصام الى محجة لمئات الهيئات والروابط العمالية والطلابية والتربوية والشعبية، ومع هذا التحرك الواسع والتطاهرات الحاشدة في بيروت والنبطية تحولت قضية مزارعي التبغ الى قضية وطنية عامة، تطغى مجرياتها على المشهد الاعلامي والسياسي.

بعد ٢٧ يوما من استشهاد المزارعين اضطرت السلطة الى زيادة اسعار التبغ ٢٠ بالماية والافراج عن المعتقلين.
خلال شهرين ولقاءات المزارعين الذين انتخبوا ممثلين عنهم الى مؤتمر مزارعي التبغ، وبجهود ومشاركة عشرات النشطاء من مزارعي التبغ، نذكر منهم ليس على سبيل الحصر: محمد نجيب الجمال وحبيب ياغي وعبد الله سرور وعلي عليق وعواضة عاصي وصبحي حمادة.
عقد المؤتمر في مركز اتحاد نقابات العمال والمستخدمين في صيدا والجنوب في ١٥ نيسان ١٩٧٣ وحضره ١٦٤ مندوبا وقد ادار المؤتمر لجنة تشكلت من كل من: محمد نجيب الجمال وحبيب ياغي وفؤاد المقدم تم خلاله انتخاب هيئة تأسيسية لنقابة مزارعي التبغ.
.
حركة مزارعي التبغ ليست وليدة او صناعة اي حزب او فرد بعينه، بل هي امتداد لعشرات التحركات التي قام بها المزارعون عاى امتداد عقود، وهي حركة ساهم فيها الاف المزارعين وعشرات النشطاء منهم، وهي ابنة التفاعل الحي والوثيق بين آلاف المزارعين وبين اليسار اللبناني الذي لعب دورا مشهودا في نقل هذه الانتفاضة من حركة مطلبية الى قضية وطنية عامة تقاطت وترافقت مع تزايد واتساع التظاهرات الحاشدة التي عمت العمال والعمال الزراعيين والطلاب واالمعلمين والمستخدمين والموظفين خلال تلك الفترة، ولم تكن جميع تلك التحركات مجرد حدث مطلبي بقدر ما كانت تشكل حدثا متقدما في تاريخ الصراع السياسي في البلاد، وهذه الفترة هي بالضبط فترة صعود اليسار الذي حقق فيها نموا لا سابق له من حيث الوزن والاتساع في جميع الاوساط الاجتماعية المتضررة من النظام، ومن حيث الشمول لمختلف المناطق اللبنانية، وحيث تم انتقال هذه التحركات من مستوى التعبير المطلبي عن مطالب قطاعية متفرقة الى مستوى التعبير السياسي العام الذي يدق ابواب النظام السياسي والطبقة السياسية وكشف مدى انغلاقهما على اي تعديل او اصلاح واللذين يحبسان التحركات المطلبة في قوالب طائفية ويجبرانها على التعبير عن نفسها على مستوى طائفي.
وفي حين كانت جوانب من الصراع تأخذ طابعا طائفيا تمثل في نمو حركة المطالبة الطائفية التي كانت تصارع تحت شعارات ازالة الحرمان عن طوائف معينة، وهنا لا بد من الاشارة إلى الدور البارز لعدد من رجال الدين الذين شاركوا في انتفاضة المزارعين متجاوزين ومتمايزين عن حركة المطالبة الطائفية تلك.


تلك لوحة لوقائع ومجرريات انتفاضة المزارعين، من دون التقليل او تضخيم دور احد، حزبا كان او فرداً، مما يساعد على تحرير تلك الانتفاضة من كل منوعات التشويه التي طاولتها.
هناك اتفاق بيني وبين الرفيق محمد نجيب الجمال على توثيق انتفاضة المزارعين بتفاصيلها ومجرياتها ونشرها في كتاب يتناول هذه الانتفاضة والإنجازات التي حققتها نقابة مزارعي التبغ على امتداد سنوات بعد تشكيلها.